تجربة الحركة الإسلامية السودانية مع الانقلابات والتفاعل السياسي اللصيق مع الأحداث لم تكن جديدة أو مستغربة على الأقل على مستوى القيادة والرأي العام السوداني، حيث يمكن اعتبار محاولة الرشيد الطاهر الانقلابية الفاشلة يوم 9 /11/ 1959 معلما رئيسيا ومحطة تاريخية مهمة في مجال صناعة القرار الحركي الداخلي، لذلك فهي تستحق منا وقفة خاصة قبل الحديث عن ثورة الإنقاذ الوطني لأنها مؤدية له، بل وملهمة لتجنب أسباب الفشل. كان الرشيد مرشدا عاما للحركة نهاية الخمسينات، وكان – فيما يبدو – رجلا طموحا واسع الخيال، ميالا إلى المبادرات الفردية، والمغامرات السياسية، غير عابئ بالرأي العام الحركي، وربما كانت هذه الخلفية هي التي دفعته إلى تلك المحاولة الانقلابية المتهورة، التي دفع ودفعت الحركة ثمنها فادحا. يصف لنا مكي الظروف المحيطة بالعملية، فيقول: "في هذه الفترة [نهاية الخمسينات] اتجه الرشيد الطاهر – المراقب العام للإخوان المسلمين – إلى الجيش، من أجل الإطاحة بالنظام، وكان الرشيد ينوي إشراك الشعبية الإخوانية في عمل شعبي عسكري، إذ عرض الرشيد على المكتب الإخواني "إقامة ميليشيا" تحت ستار تأييد نظام [الفريق] عبود، ولكن رُفض هذا القرار من قِبَل المكتب، وهنا مضى الرشيد في تأسيس عمل عسكري انقلابي مستقل، من خلال صلاته الشخصية ببعض ضباط الجيش، ومن خلال الوجود الإخواني الضيق ... ويبدو أن أبا المكارم عبد الحي [وهو ضابط مصري ينتمي إلى "النظام الخاص" في حركة الإخوان المصرية] حينما جاء إلى السودان في 1955 كان منفعلا بتجربة الإخوان المصريين مع الجيش، فأوصى بالتركيز عليه، ونقْل تجربة النظام الخاص في مصر، مما أدى إلى أن يُقبِل بعض شباب الإخوان على الكلية الحربية ... ". لكن يبدو أن الرشيد لمزاجه المتعجل – وربما لنقص الخبرة الفنية لديه كذلك – ارتكب أخطاء إستراتيجية أثناء إعداده للانقلاب، منها: * اتصاله بالضباط اليساريين والقوميين، وطلب تعاونهم في العملية، مما جعلها عرضة للفشل من البداية، نظرا لانعدام الثقة .. * استخدام ضباط الإخوان في العملية، دون موافقة من أعضاء قيادة الحركة الآخرين، بل دون علم منهم أصلا .. * نقص الحذر والاحتياط خلال الإعداد، حيث كانت الاجتماعات تعقد في بيوت الضباط ومكاتبهم لمناقشة الموضوع "فكان انقلابا مكشوفا". لقد كان من الآثار السيئة لمحاولة الرشيد الانقلابية الفاشلة أن الإخوان: * أصيبوا في مسؤولهم [مراقبهم العام الرشيد الطاهر الذي حكم عليه بالسجن 5 سنوات].. * كما أصيبوا منه: إذ تجاوزهم في موضوع الانقلاب دون اعتبار لرأيهم، مع استخدام كوادر إخوانية. * فقدوا كل نواة تنظيمهم في الجيش، حيث أعدم ضباطهم المشتركون في العملية. لقد كانت تجربة مريرة بكل المقاييس، فأعطتها الحركة حظها من التأمل، واستخلصت منها العبرة اللازمة للمستقبل. وقد حدث ذلك في المؤتمر الخامس لمجلس شورى الحركة، صيف العام 1962، حيث "تم تقييم موضوعي لحركة الرشيد الطاهر الانقلابية، وانتهى المؤتمر إلى الآتي: 1. إدانة الرشيد الطاهر في تصرفه الانفرادي الانقلابي. 2. اختيار صيغة القيادة الجماعية. 3. وقد عنى ذلك بالطبع إقالة الرشيد الطاهر الذي كان حبيسا بالسجن ... 4. ومن أبرز سمات هذه الفترة أن القيادة أصبحت دورية متنقلة. 5. وانتقلت بعدها صلاحيات إصدار القرارات ذات الطابع النوعي – أي التي تحدث تغييرا أساسيا في مسار الحركة – إلى الأجهزة". وربما كان هذا القرار الأخير أهم قرارات المؤتمر، لأنه إجراء وقائي يدرأ خطر الاستبداد القيادي في المستقبل، ويؤثر على العمل في الصميم. وبفضل هذا التمييز المنهجي بين القرار النوعي وغيره، رسخت الحركة منهج العمل الجماعي في صفها، وألزمت به قادتها "إذ التنظيم ما عاد تنظيم الرجل الواحد بعد قرارات المؤتمر التأسيسي في 1962، والخاصة باختيار صيغة القيادة الجماعية" والتمييز بين القرار النوعي وغيره. وقد استخلصت الحركة الإسلامية العبرة من تجربتها الأولى ومن الفشل الشيوعي في طريقة إخراجها لثورة الإنقاذ عام 1989، حيث انبنت خطة انقلاب الإنقاذ على استخلاص العبرة التاريخية من أخطاء الحزب الشيوعي السوداني في الانقلاب الفاشل الذي دبّره الحزب ضد الرئيس النميري، فقد ارتكب الشيوعيون أخطاء إستراتيجية وتكتيكية قاتلة في ذلك الموقف، استخلصت منها الحركة الإسلامية دروسا وعبرا ثمينة، فقد استطاع زمرة من الضباط الشيوعيين – بقيادة الرائد هاشم العطا– الانقلاب على النميري يوم 19 /07 /1971، والسيطرة على المرافق الحيوية في الخرطوم، بما فيها القصر الرئاسي والإذاعة، ودام الانقلاب ثلاثة أيام، ثم تحول إلى نكسة، فاستأسد النميري على الحزب الشيوعي السوداني، وقتل أهم قادته، بمن فيهم الأمين العام للحزب، عبد الخالق محجوب، وحطم ميراثه السياسي إلى الأبد. كان ذلك الانقلاب الشيوعي "أقرب إلى المغامرة منه إلى الفعل المتأني المدروس، وقد خسر فيه الشيوعيون أهم قياداتهم الفكرية والسياسية والنقابية، وقد لاحظ أحد الكتاب الفرنسيين أن "من أسباب نجاح الانقلاب العسكري يوم 30 جوان 1989 الغموض الذي تعمده مدبروه، حين قدموه على أنه انتفاضة وطنية قام بها مجموعة من الضباط الوطنيين الذين استثارهم عجز الحكم البرلماني القائم، بل تجاوزوا ذلك إلى حد أنهم سجنوا السيد حسن الترابي، زعيم الجبهة الإسلامية القومية، والقائد الإديولوجي للانقلاب، ضمن رؤساء الأحزاب الأخرى التي حظروها". وهكذا كانت استراتيجية الإسلاميين السودانيين عام 1989 مبنية على "تأمين" الثورة قبل "التمكين" لبرنامجهم السياسي، بينما عكس الشيوعيون الآية، فأعلنوا برامجهم على الملإ، في الوقت الذي لا يزال انقلابهم يعاني مخاضا عسيرا. ففي فجر اليوم الثلاثين من جوان 1989 تحركت كتائب من الجيش السوداني، يقودها ضباط إسلاميون شباب إلى المواقع الإستراتيجية في الخرطوم، وسيطرت على القصر الرئاسي، وقيادة الأركان، والإذاعة والتلفزيون، ثم أعلنت (ثورة الإنقاذ الوطني) .. لقد لخص حسن مكي عوامل النجاح في العمل العسكري الانقلابي، فقال: "يتطلب العمل العسكري الناجح لاستلام السلطة السياسية دقة التنظيم، ودقة اختيار القيادات البديلة، ومواءمة الخطاب السياسي وملامسته لقضايا الناس، والتتابع والنفاذ في إجراءات استلام السلطة حتى لا يعطِي الانطباع بوجود فراغ، بالإضافة إلى عنصري استحكام الأزمة السياسية في التوقيت الملائم، وكسر شوكة النظام القديم، ولا يبقى بعد ذلك إلا عنصر التوفيق، ولله الأمر من قبل ومن بعد". ويشير حيدر ابراهيم، في حديثه عن الانقلاب، إلى أن الإسلاميين استغلوا الحرب الأهلية في الجنوب، وتدهور الأحوال الأمنية، وتراجعات الجيش، فاخترقوا المؤسسة العسكرية وادعاء مساندتها شعبيا بالمال والدعوة للتسلح. واقحم الجيش مباشرة في الأزمة السياسية، فكانت مذكرة الجيش في فبراير 1989، وعاشت البلاد أجواء انقلابية، فانتهزوا الفوضى لإنجاح انقلابهم في 30 جوان 1989، وقدّموا كثيرا من المبررات لهذا الإنقلاب، مثل أن الغرب لن يقبل بوصول الإسلاميين للسلطة عن طريق الانتخابات، أو أن ديمقراطية (ويستمنستر) الغربية لا تتلاءم مع خصوصية السودان الثقافية، لكن بيان ثورة الإنقاذ الوطني يكذب ما ذهب إليه حيدر إبراهيم في مقاله، فمبررات الانقلاب معروفة فى بيانه، وهي انهيار الاقتصاد وتراجع القوات المسلحة بسبب إهمالها من الحكومة التي يتواطأ بعض وزرائها اليساريين مع التمرد وإقصاء الإسلاميين بمذكرة الجيش من السلطة وإعلان حكومة من خارج البرلمان. لقد كانت تلك الأخطاء المهلكة التي قضت على الانقلاب الشيوعي عام 1971 حاضرة في أذهان الثوار الإسلاميين عام 1989: * فقد سارعوا إلى استكمال استلام السلطة وتكوين حكومة جديدة. * وكانوا قد أعدوا من السند الشعبي قبل الإقدام على الانقلاب ما يضمن له البقاء. * وتعمدوا الغموض والتعمية في البدء، تجنبا لكيد القوى الإقليمية والدولية المتربصة. * واستخدموا بعضا من الشباب المدنيين المدربين في دورات الحراسة، تجنبا للاستنزاف، أو التعويل على الآخرين. وفعلا حدث الانقلاب، وأصدرت ثورة الإنقاذ الوطني بيانها الأول جاء فيه ما يلي: 1. إن القوات المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصونا للعرض والكرامة، وتترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة. 2. وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية بقيادة الأمة لتحقيق أدنى تطلعاتها في الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي. 3. الفترة السابقة عرفت ديمقراطية مزيفة ومؤسسات دستورية فاشلة، وإرادة المواطنين قد تم تزييفها بشعارات براقة مضللة وبشراء الذمم والتهريج السياسي، ومؤسسات الحكم الرسمية لم تكن إلا مسرحا لإخراج قرارات إساءة ومشهدا للصراعات والفوضى الحزبية، وحتى مجلس رأس الدولة لم يكن إلا مسخا مشوها، أما رئيس الوزراء قد أضاع وقت البلاد وبدّد طاقاتها في كثرة الكلام والتردد في السياسات والتقلب في المواقف حتى فقد مصداقيته. 4. الشعب المسنود بانحياز قواته المسلحة قد أسس ديمقراطية بنضال ثورته في سبيل الوحدة والحرية، ولكن العبث السياسي قد أفشل التجربة الديمقراطية وأضاع الوحدة الوطنية بإثارة النعرات العنصرية والقبلية حتى أن أبناء الوطن الواحد رفعوا السلاح ضد إخوانهم في دار فور وجنوب كردفان، علاوة على ما يجري في الجنوب من مأساة وطنية وإنسانية. 5. فشل حكومات الأحزاب السياسية في تجهيز القوات المسلحة لمواجهة التمرد، فقد فشلت أيضا في تحقيق السلام الذي رفعته الأحزاب شعارا للكيد والكسب الحزبي الرخيص. 6. تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية، وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور، ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية، فازدادت حدة التضخم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم، إما لانعدامها أو الارتفاع أسعارها، مما جعل كثيرا من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة. 7. انشغال المسؤولين بجمع المال الحرام حتى عم الفساد كل مرافق الدولة، وكل هذا مع استشراء التهريب والسوق السوداء، مما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراء يوما بعد يوم بسبب فساد المسؤولين وتهاونهم في ضبط الحياة والنظام. 8. إهمال الحكومات المتعاقبة على الأقاليم، أدى إلى عزلها عن العاصمة القومية وعن بعضها بسبب انهيار المواصلات وغياب السياسات القومية. 9. القوات المسلحة ظلت تراقب كل هذه التطورات بصبر وانضباط، ولكن شرفها الوطني دفعها لموقف إيجابي من التدهور الشديد الذي يهدد الوطن، واجتمعت كلمتها خلف مذكراتها الشهيرة التي رفعتها منبهة من المخاطر ومطالبة بتكوين الحكم وتجهيز المقاتلين للقيام بواجبهم، ولكن هيئة القيادة السابقة فشلت في حمل الحكومة على توفير الحد الأدنى لتجهيز المقاتلين، وقد تحركت قواتكم المسلحة اليوم، لإنقاذ بلادنا العزيزة من أيدي الخونة والمفسدين، لا طمعا في مكاسب السلطة، بل تلبية لنداء الواجب الوطني الأكبر في إيقاف التدهور المدمر ولصون الوحدة الوطنية من الفتنة السياسية، وتأمين الوطن وانهيار كيانه وتمزق أرضه.