بالتعاون مع مؤسسة ياسر عرفات تضع "الحوار" بين يدي قرائها الكرام هذه السلسلة عن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تجدون فيها كل ما يخص حياة هذا البطل الذي اغتالته يد الغدر الصهيونية، وستروي هذه الصفحات في طياتها فصول "الهوية النضالية للشعب الفلسطيني- السيرة والمسيرة ". ….ترافق ذلك مع مجازر أخرى في كثير من المدن والقرى الفلسطينية. وبعد انهيار الجيوش العربية، طُرد السكان أواضطروا للهرب من المجازر، فانهارت البنى المدنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في فلسطين، عالم كامل قد انهار في بضعة شهور، ليحل محلّه مجموعة من مخيمات اللاجئين في الوطن وخارجه، يعاني أهلها البؤس والفقر، يسعون إلى الاستقرار ومعرفة ما يدور حولهم. وعلى صعيد آخر، فقد أعلن عن انضمام الضفة الغربية إلى شرق الأردن، لتشكل إحدى جانبي المملكة الأردنية الهاشمية بعد مؤتمر أريحا، الذي عقد في مستهل ديسمبر 1948، بالمقابل أعلن في غزة عن قيام "حكومة عموم فلسطين"، بما في ذلك الضفة الغربية، والأرض المحتلة من قبل إسرائيل، وسيطر عليها "آل الحسيني"، وتم تعيين أحمد حلمي عبد الباقي، رئيساً لوزرائها، وجمال الحسيني، وزيراً للخارجية، وعيّن جمال عرفات (الأخ الأكبر لياسر) سكرتيراً للحكومة، وقد اعترفت بهذه الحكومة كل الدول العربية، ما عدا الأردن بدعوى أنه هو أيضاً يمثل الشعب الفلسطيني. * الدراسة الجامعية ورابطة الطلبة الفلسطينيين في هذه الظروف المضطربة، التحق ياسر عرفات بكليّة الهندسة في جامعة القاهرة، حيث تبوأت الجامعة الجانب الأساسي من صلب اهتمامه، فانتظم في دراسته، وفي ذهنه ما تعرض له شعبه من نكبة، ولم يكن ما يحدث على الساحة الفلسطينية منفصلاً عما يدور في مصر في تلك الأيام، ففي العام 1951 تصاعدت الاشتباكات بين رجال المقاومة المصرية والقوات البريطانية المتمركزة على طول قناة السويس. وإلى جانب علاقته مع الضباط الأحرار، والقوى السياسية المصرية الأخرى، اتسع نشاطه السياسي، وكانت أولى هذه النشاطات إقدامه مع مجموعة من المعارضين المحتجين على قرار الجامعة العربية في العام 1951، على تعليق المساعدات للطلاب الفلسطينيين المحتاجين، فقاموا بالتظاهر وتحطيم مكتب "أحمد الشقيري"، الأمين العام المساعد للجامعة العربية للشؤون الفلسطينية، وفي الحال استؤنف صرف المساعدات. هذا الإنتصار، بالإضافة إلى تجارب المرحلة السابقة في حياة عرفات الواسعة، شجّعته على إنشاء أول تنظيم فلسطيني في صفوف الطلاب الفلسطينيين الموجودين في القاهرة، يمنحه ومضاً فريداً، وحضوراً متوهجاً إلتزاماً منه بتحرير فلسطين. وشاءت الظروف أن يحضر في هذة الأثناء من غزة كل من: سليم الزعنون (أبو الأديب)، رئيس اتحاد الطلاب الثانونيين هناك، والطالبان صلاح خلف (أبو أياد) وماجد المزيني. تم الاتصال والاتفاق فيما بينهما، يقول سليم الزعنون في ذلك: "وهكذا، بتأثير حيوية ياسر عرفات، أصبحنا نحن الثلاثة نخوض معركة رابطة الطلاب الفلسطينيين الانتخابية، وبعد فترة وجيزة، انضم إلينا عبد الفتاح حمود، تلاه زهير العلمي، ثم معاذ عابد وعدد لا بأس به من الطلاب، فشكّلنا مجموعة مترابطة، خاضت معركة الرابطة الانتخابية". وبعد حوارات مع الأحزاب، ودرجة تمثيلها في الرابطة، خاصة الطلاب القادمين من غزة المنتمين لحركة الإخوان المسلمين، تم الاتفاق، وفازت قائمتنا، برئاسة ياسر عرفات. لعب ياسر عرفات دوراً مميّزاً ذا شأن في الأحداث في مصر، فقد عمل على توضيح الموقف الفلسطيني كلما سنحت فرصة لذلك. فبعد حريق القاهرة العظيم، وبعد أن أكلت النار عدداً كبيراً من مؤسسات الدولة، جاءت الثورة المصرية، ففي 23 جويلية 1952م، قاد جمال عبد الناصر بمساعدة (11 ضابطاً) السلطة في مصر، وأعلن الجمهورية، ودعا إلى طرد القوات البريطانية من قناة السويس، وأصدر مرسوماً بالإصلاح الزراعي. هذا الحدث أعاد الأمل إلى الطلاب الفلسطينيين في مصر، الذين كانوا يعتبرون أن النظام القديم خانهم، أو على الأقل خذلهم. تشجّع ياسر عرفات بهذا النفس الجديد، وفي الحال، راح يسعى، بصفته رئيس رابطة الطلاب، إلى تعزيز مكانته بلقائه مع ضباط الثورة، ولكونه من أنصار مبدأ الاتصال المباشر، التقى في القصر الجمهوري بالشخص الذي عيّنه مجلس الثورة رئيساً للدولة، وهو الجنرال محمد نجيب، وقدّم له عهد وفاء من الطلاب الفلسطينيين مكتوباً بدمهم، استقبله الجنرال بحرارة، ونشرت الصحافة المصرية صورة لذلك العسكري المهيب، وإلى جانبه الطالب الشاب ياسر، وعلى الفور سُمي الجنرال نجيب رئيساً فخرياً للرابطة. وحدث تبدّل في قيادة مجلس الثورة المصرية، أصبح جمال عبد الناصر قائداً لها ولمصر في توجّه جديد. وعلى الرغم من غبطة ياسر عرفات، بالنظام المصري الجديد، إلاّ أن العلاقات معه لم تكن في حالة نموذجية دائماً، ففي أكتوبر العام 1954م، بعد محاولة إعتداء قام بها الإخوان المسلمين، أمر عبد الناصر باعتقال عدد من أفرادهم ومن المتعاطفين معهم، وكان عرفات من بين هؤلاء المتعاطفين، وكان هذا أول اعتقال له في تاريخ نشاطه الطويل، مكث في السجن شهراً، ثم أطلق سراحه إثر تدخل رفاقه في الجامعة، لكن السلطات أغلقت معسكر تدريب الطلاب وصادرت الأسلحة، إلاّ أن هذا الأعتقال، لم يمنعه من ممارسة نشاطه بل ظل متمسكاً بأهداف النظام الجديد، وظل يزيد من نشاطه في مختلف المجالات، ففي العام 1955م، قام عرفات بأول رحلة رسمية له باسم الرابطة، حيث سافر على رأس وفد للمشاركة بالمهرجان العالمي للشباب والطلاب في وارسو، وهي تظاهرة جرى تنظيمها من قبل مجموعة الكتلة الاشتراكية، بقيادة الاتحاد السوفييتي، وكانت الدعوات للمشاركة في هذه التظاهرة تقتصر على وفود من بلدان عربية، حضرها الفلسطينيون بصفتهم أعضاء في تلك الوفود. أثرّت التطورات الجارية على الساحة المصرية، والمواقف المتصاعدة للرئيس جمال عبد الناصر تأثيراً كبيراً على ياسر عرفات، رسّخت في ذهنه مسألة الوجود الفلسطيني في مختلف التطورات الجارية، وبصفته الزعيم الفلسطيني الطلاّبي في ذلك الوقت، وبعد الإعتداء على غزة، قامت الرابطة بالاتصال بفدائيي مصطفى حافظ (الضابط المصري الشهير الذي شكّل عام 1953م، نواة المقاومة الشعبية في قطاع غزة لتقوم بأعمال فدائية داخل العمق الإسرائيلي، وكان قد قتل برسالة ملغومة، وبعد موته تشتت الفدائيون الذين جمعهم معه)، فتعاونت الرابطة معهم وقامت بالاتصال بهم لتوصيل ما يلزم توصيله إلى القطاع والقيام بعمليات المقاومة المنظمة، وبدأت الرابطة تغطي هذه العمليات إعلامياً من خلال نشرات الرابطة، ومن بينها صحيفة "طلاب فلسطين" التي كانت تصدرها رابطة طلاب القاهرة. وفي هذه الفترة، تنقّل ياسر عرفات بين القاهرة وقطاع غزة، للتعرّف على المقاومة الشعبية ورجالها، وفي العام 1954م تعرّف على خليل الوزير الذي سيعرف فيما بعد باسمه الحركي "أبو جهاد" الذي تلقى تدريباً عسكرياً لدى الإخوان المسلمين، وبنى فدائييه من المقاومين الذين راحوا يستولون على كل ما تقع عليه أيديهم، من أسلحة وذخائر، وأصبح هؤلاء "المتسللون" كما أطلق عليهم الإسرائيليون، يزدادون عنفاً مع مرور الأيام. تخرّج ياسر عرفات من كلية الهندسة في العام 1955م، وكان عمله كمهندس في شركة مصر لأعمال الإسمنت المسلح هو أول وظيفة يشغلها عقب تخرجه، وكانت هذه الشركة متخصصة في بناء المصانع الكبيرة، ويقع مقرها في مدينة "المحلة الكبرى" التي تبعد زهاء مائة كيلومتر عن القاهرة، وعقب تخرّجه من الجامعة، أسس ياسر عرفات "رابطة الخريجين الفلسطينيين" من أجل أن يواصل النضال الذي بدأه في إطار رابطة الطلاب الفلسطينيين، فمن خلال هذه الخطوة بقيت قوة الرابطة ودورها المميّز في الحركة الوطنية في متناول يده. وعندما أعلن العدوان الثلاثي على مصر، تحرّك ياسر عرفات فأنشأ مجلساً يضم الرابطتين وغيرهما من الجمعيات الفلسطينية والأفراد النشطاء من نساء وموظفين وعمال ورجال أعمال، مدركاً تماماً أن الدفاع عن مصر هو دفاع عن فلسطين، أعدّ قائمة بأسماء المتطوعين للقتال تضم الآلاف، كانوا جميعاً مستعدين للموت دفاعاً عن مصر وفلسطين، وتشكّلت كتيبة "كوماندوز"، لتقوم بمقاومة العدوان الثلاثي إلى جانب المتطوعين المصريين. وكان ياسر عرفات مرتبطاً بالجيش المصري بوصفه ضابط احتياط، مما يعني أنه يستطيع أن يلتحق فوراً بالمقاتلين، فتمّ إرساله إلى بور سعيد، حيث ساهم في إطار سلاح الهندسة في عمليات نزع الألغام. وأعلن الجيش المصري أنه بحاجة إلى ضباط متطوعين لتفكيك القنابل والصواريخ التي تسقطها طائرات العدو دون أن تنفجر، وذلك لإبطال مفعولها. لقد عُثر على هذه القنابل والصواريخ في أماكن عديدة، وكان الاقتراب منها بمثابة مجازفة شديدة الخطورة، إذ يمكن أن تنفجر في أي وقت، ومع ذلك قرّر ياسر التطوّع لهذه المهمة، وكان مسؤولاً عن فريق ضباط يضم مهندس وفنيين يتحرك إلى حيث توجد القنابل، فينتقل من مكان إلى آخر كي ينفّذ مهمته، ما منحه الالتقاء بعدد كبير من الضباط والعسكريين في الجيش المصري. وكانت أحداث غزة تشدّه وأصحابه، فقد كانت غزة تغلي بالاتنفاضات، ولم يكن مجرد مصادفة ذلك الترابط بين ما يحدث في القاهرة في جموع الطلبة الفلسطينيين وبين الانتفاضة التي قام بها المعلمون ورابطة المعلمين في غزة، إضافة إلى نشاط الشباب الثوري الذي كان يقوم بعمليات عسكرية سنة 1954 في غزة، وكان الأخ أبو جهاد وراء هذا النشاط مع إخوانه. * حركة فتح من التأسيس حتى الثورة استقر ياسر عرفات في الكويت منذ العام 1957، معتقداً أن بإمكانه العمل السياسي في الجالية الفلسطينية الكبيرة التي تقيم بها، فعمل في البداية مهندساً في وزارة الأشغال العامة، ثم تشارك مع رجل أعمال مصري وأنشأ شركة بناء فتحسّنت أوضاعه المادية، ما أتاح له فرصة السفر والتحرك لأكثر من مكان. في هذه الأثناء، التقى خليل الوزير، وصلاح خلف، وخالد الحسن، وآخرين (لم يستمروا في الحركة)، ليتفقوا على تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني، التي اختصروها باسم حركة "فتح"، وطرحت شكلاً تنظيمياً قائماً على الفكرة التي سبق وطرحت في رابطة الطلبة الفلسطينيين، لتنظيم قيادي فلسطيني غير حزبي، ولا يتبع أية دولة أو جهة، ويقوده في معركة تحرير الوطن، فكرة القومي والوطني، ووحدة مناضليه في أرض المعركة، استوعب الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني في الكثير من أماكن تواجدهم، وأعلنوا انتماءهم لهذا التنظيم....