18 ديسمبر 1832م: تاريخ تحويل مسجد كتشاوة إلى كاتدرائية "سان فيليب" الطيب بن ابراهيم لا يمكن أن ننظر إلى التنصير بمعزل عن الاستعمار وحبائله وأدواته وأهدافه، فالتنصير أحد أدوات الاستعمار التي سبقته، والتي تحالفت معه، والتي بقيت بعده، فالجواسيس المنصرون أفرادا كانوا أو إرساليات سبقوا الاستعمار ودلّوه على مواطن القوة والضعف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، ليس في الجزائرفقط، بل في العالم الإسلامي من أندونيسيا شرقا إلى السنغال غربا، فكانوا أول من أفاد واستفاد. يعتبر النشاط التنصيري أكثر الأنشطة الفرنسية التي مورست في الجزائر قبل الاحتلال وبعده، فهو لم يبدأ مع بداية الاحتلال ولم يتوقف مع نهايته، لكنه في عهد الاحتلال وتحت مظلته، استغل المنصرون مآسي الشعب الجزائري من فقر وجوع وأمراض وجهل وتشريد وبؤس وحرمان، وأصبح التنصير يسير على قدم وساق في وضح النهار، على مرأى ومسمع من الجميع، بقوة قانون القوة، ترغيبا وترهيبا. بهذا الأسلوب عم التنصير كل ربوع الوطن، وأصبحت عشرات الإرساليات التنصيرية تصول وتجول، تبتزُّ الجياع والمرضى والفقراء والجرحى، وتستبدل الإنجيل برغيف الخبز أوجرعة الدواء. كان جيش الاحتلال الفرنسي وضباطه أكثر تنصيرية من المنصرين الرسميين، بقدر ما كان المنصرون أكثر حرصا على مصالح الاستعمار، فعندما احتل الفرنسيون الجزائر، أول ما قدّمه العسكريون كهدية للمنصرين في مدينة الجزائر وحدها عقب احتلالها مباشرة، هو غلق ثلاثة عشر مسجدا كبيرا، ومائة وثمانية مساجد صغيرة، واثنين وثلاثين جامعا، واثنتا عشرة زاوية، وحُوّل مسجد "علي بتشيني" إلى كنيسة "سيدة الانتصار"، وفي وهران حُوّل مسجد "سيدي محمد الهواري" إلى مخزن عام للعسكريين، وفي قسنطينة حوّل مسجد "صالح باي" إلى كنيسة، وفي تلمسان حوّل مسجد "أبي الحسن" إلى متحف، وفي معسكر حوّل مسجد "العين البيضاء" الذي أعلن من على منبره الأمير عبد القادر الجهاد إلى مخزن للحبوب للجيش الفرنسي. هكذا كان حال المساجد المحظوظة حُوِّلت لكنائس أومخازن، وغيرها دُنِّس وحُوِّل لإسطبلات. لكن يبقى الحدث الأبرز في مساجد الجزائر كلها هو مسجد كتشاوة الذي تم الاعتداء عليه، وارتكبت به أبشع مجزرة في تاريخ مساجد الجزائر إن لم تكن في العالم، إنه المسجد التاريخي الذي بناه العثمانيون سنة 1022ه الموافق 1613، وتم توسيعه في عهد حسن باشا سنة 1794، والموجود بمدينة الجزائر، وكان من أجمل المساجد بطابعه الهندسي والفني، وشكله العمراني، فتم اختيار التحفة المعمارية من طرف الجيش الفرنسي، وحُوِّل لكنيسة للفرنسيين، وعندما سمع سكان مدينة الجزائر بما يُبَيَّتُ لمسجدهم هرعوا له بالآلاف لمنع تحويله لكنيسة، واعتصموا بداخله وخارجه لضيق مساحته التي لم تتسع للجميع، واستماتوا في منع تحويله لكنيسة، وكان ذلك الاعتصام فرصة للجيش الفرنسي بقيادة الجنرال "دو بونياك" المتعصب، الذي هاجم جموع المعتصمين العزل بتاريخ 18 ديسمبر سنة 1832م، فقتل منهم أكثر من أربعة آلاف معتصم، وجرح مثل ذلك، وأُخْرِجت المصاحف الموجودة بداخل المسجد، وتم حرقها في الساحة الملاصقة له، التي غصت بجثث الشهداء المدافعين عن مقدساتهم، وأصبحت منذ ذلك تعرف ب"ساحة الشهداء"، وحُوّل مسجد كتشاوة إلى كاتدرائية، أطلق عليها اسم "سان فيليب"، وأقيمت به أول صلاة عيد الميلاد ليلة 24 ديسمبر سنة 1832م بزعامة القس "كولان"، قبل أن يهنئهم البابا غريغوار السادس عشر على الإنجاز، ويرسل لهم تماثيل القديسين. ما يلاحظ عندنا في الجزائر ذلك التلاحم والانسجام اتجاه التنصير، الذي كان قائما بين جميع مؤسسات الدولة الفرنسية الدينية والمدنية، وأجهزتها الاستعمارية، فمُوِّن التنصير بالكفاءات العلمية الكبيرة، وأنفقت عليه الأموال الطائلة، وعقدت له الملتقيات الدولية "ملتقى قسنطينة"، وبذلت لرعايته جهودا مضنية، وكان التنسيق قائما على أعلى المستويات بين جنرالات الجيش الفرنسي و"جنرالات" التنصير الكبار، أمثال شارل لافيجري في الشمال، وشارل دي فوكو في الصحراء، وكيف كان الجيش يسقط المدن ويسلم مساجدها لرجال الكنيسة لتحويلها لكنائس، وكيف تم الاحتفال العسكري الضخم أثناء تحويل مسجد كتشاوة لكنيسة، تم تحضيره من طرف العسكريين قبل المدنيين، فالفرنسيون الذين كان من مبادئ ثورتهم شعار: "أخنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، أثناء الثورة الفرنسية سنة 1789، أصبحوا في الجزائر كلهم رجال دين مع الكنيسة يجتهدون لتنصير الجزائريين. بعد استقلال الجزائر، وبعد أكثر من مائة عام مرت على تحويل الاحتلال الفرنسي المسجد إلى كنيسة، استرجع جامع كتشاوة هُويته الإسلامية، وأقيمت به أول صلاة جمعة في عهد الاستقلال، بإمامة رئيس جمعية العلماء المسلمين، الشيخ البشير الإبراهيمي رحمة الله عليه، بتاريخ 4 جمادي الثانية سنة 1382ه، الموافق ل2 نوفمبر سنة 1962م، وهي الخطبة التي نقلت مباشرة على أمواج أثير الإذاعة الوطنية الجزائرية، وحضرها عدد من مسؤولي الدولة وبعض وفود البعثات الإسلامية وجمع غفير من المواطنين، وكان يوما تاريخيا مشهودا عبّر فيه الجزائريون عن فرحتهم وسعادتهم بعد تحرير مسجدهم، بعد أن حررت أرضهم. لم يكن تحويل مسجد كتشاوة لكنيسة حادثا معزولا حدث في ظل الاحتلال بين الهلال والصليب، بل كان عنوانا لعهد صليبي لم تكتمل فصوله منذ عهد الحروب الصليبية، وحنين كنسي يعود لأيام القديس أغوستين قبل الفتح الإسلامي، وانتقام استعماري لدور الأسطول الجزائري، وتصفية حسابات قديمة جديدة مع الإسلام يعرفها قادة الجيش الفرنسي، وقد قال الجنرال الفرنسي غورو، عندما وقف عند قبر صلاح الدين الأيوبي: " ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين"!!. إن العلاقة القائمة بين الاستعمار والتنصير علاقة إستراتيجية قوية ومتكاملة، فالتنصير هو المكون للمناخ الذي ضمن التبعية للاستعمار حتى بعد رحيل الاستعمار، فالتنصير أبقى وأخطر من الاستعمار، وثبت تاريخيا أن الاستعمار زائل وراحل عاجلا أوآجلا، والتنصير أبقى وأعمق في النفوس والعقول والثقافات، ألم يرحل الاستعمار الاسباني عن أمريكا اللاتينية دون رجعة، لكن بقي التنصير إلى الأبد، وأصبحت أمريكا اللاتينية إسبانية اللسان والمعتقد!، فتحررت جغرافيتهم وفقد تاريخهم!. هناك فرق بين من يحتل الجغرافيا وبين من يحتل التاريخ، فالجيش العسكري احتل الجغرافيا، والجيش الأبيض، كما قال أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، احتل التاريخ، والاعتداء على الجغرافيا أهون من الاعتداء على التاريخ، فنحن اندملت جراحنا العسكرية بينما لا زلنا نعاني من جراح سموم رجال التنصير التي بُثَّت في تعليمنا وثقافتنا، وتقاليدنا، وشككت في تاريخنا، وخلقت النزاع بيننا، فاحتلال التاريخ معناه التحول من الهوية الأصلية إلى هوية أخرى دخيلة، بكل خصائصها الدينية واللغوية والثقافية والانتمائية والحضارية، واسترداد التاريخ أعقد من تحرير الجغرافيا!! . إن الاستعمار زائل طال الزمن أوقصر، بينما التنصير لا يزول، بل يؤدي لضرب الوحدة الوطنية، ولإيجاد أقلية طائفية تطالب بالانفصال، وتوظف من قبل الإمبريالية، ألم تنفصل تيمور الشرقية المسيحية عن الدولة الأم أندونيسيا المسلمة سنة 2002 بحجة أنها أقلية مسيحية!؟، ألم ينجح الغرب في فصل جنوب السودان المسيحي عن السودان الأم المسلم بنفس الحجة سنة 2011!؟، أليس ما يحدث في جنوبنيجيريا المسيحي وشمالها المسلم قريب من هذا!؟، أليس هذا ما فشلت فرنسا في تحقيقه في مناطق محددة في الجزائر شمالا وجنوبا !!؟، لكنها لحد الساعة لم تمل ولم تكل، ولا زالت تحوم حول الحمى تحت عدة مسميات..!!. وإذا كان الاستعمار يؤدي لاستنزاف الثروات والموارد، فالتنصير يؤدي لانفصال الجغرافيا عن التاريخ!.