بقلم: محمد بوكحيل قد يكون من المفيد التذكير بأن عوامل انتصار الثورة الجزائرية على ثالث قوة عسكرية عالميا، مدعومة بحلفائها الأطلسيين، هي عوامل متأتية أساسا عن روح التضحية العالية للشعب الجزائري وحبه لوطنه وتمسكه بدينه وشخصيته العربية الإسلامية الجزائرية، وهي قناعة لم تقتصر على كونها أساسا نظريا فحسب، بل مرت فعلا بمرحلة تطبيق ولقيت قبولا واسعا في الأوساط الجماهيرية حتى الاستقلال، ثم استمر دفع الإرادة الثورية إلى ثلاثة عقود بعد الاستقلال في أروع صور التضامن الوطني والتآخي الاجتماعي بين أفراد الشعب، لاسيما في البوادي والأرياف، معاقل المقاومة ومنطلقات سهام الجهاد ونقاوة أرض نمت فيها بذور التضحية. وفي عقد الثمانينات هبت رياح ما يعرف بالإصلاحات السياسية من أوربا الشرقية عبر جو قاتم وضبابية، وطفت خلاله على السطح وبشكل جلي تناقضات أنتجتها الإدارة الموروثة عن الاستعمار، تغذيها النوايا الشتات الناجمة عن بعض الاختلافات الشخصية لذوي القدرات. وفي خضم ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة عاشتها الجزائر، والصراع الذي برز داخل النظام السياسي بين التيار الإنفتاحي والتيار المحافظ، شهدت الجزائر ميلاد دستور 23 فبراير 1989م، فجسد نقطة تحول في الحياة السياسية الجزائرية، لأنه نقل الجزائر في ثوب رابع مرحلة من نظام الحزب الواحد إلى نظام التعددية السياسية، إذ نص على تكريس التعددية الحزبية السياسية والحريات العمومية وتبنى مبدأ الفصل بين السلطات.. حينها سارع الكثير إلى إنشاء الجمعيات كل حسب مشربه ومبتغاه، ما دعا أبناء الشهداء إلى الالتقاء حول مسألة المسائل، إنقاذ البلاد بمشاركة المخلصين وبناء الدولة التي استشهد من أجلها الملايين من خيرة أبناء الجزائر، وبناء جزائر نوفمبر وترسيخ المشروع الحضاري للأمة الجزائرية وحمايته من المؤامرات التي حاكها وكلاء الاستعمار متفننين في التشويه والتقزيم والتخريب لإجهاض المشروع الحضاري. وكان لقاء أبناء الشهداء، وهم الفئة الأقل حظا في المجتمع والأكثر حاجة إلى الحماية يومها، لقاء مسؤولا، بدايته البحث عن شكل تنظيم لا يخدم السياسة من أجل التهريج، ولكن من أجل الحفاظ على الوطن وثوابت الأمة. وبعد عدة لقاءات في السر تارة، والعلن تارة أخرى، انعقدت ندوة 18 فيفري 1989م، وحضر المؤتمر التأسيسي في أوت 1989م بمبادئ على قاعدة صحيحة، مدعومة بالإيمان العميق من أبناء أولئك الذي سقى آباؤهم شجرة الحرية بدمائهم، ثم أنعقدت الندوة الثالثة 2، 3 ماي 1991، والندوة الرابعة يوم 18جوان1993م، ليعلن يوم 18 فبراير كيوم رسمي للشهيد. جئت بهذه المقدمة المتواضعة لأبين مدى الانعطاف في الحياة الاجتماعية للشعب الجزائري اليوم.. والقول قبل 88 عاما غزا الاستعمار الفرنسي الجزائر مستهدفا تاريخها ومعتقدات أبنائها وبطولاتهم، طامعا في إخضاعهم واستعبادهم، وعازما على النيل من شرفهم والاستحواذ على ممتلكاتهم، واستمر وجود الغزاة 132عاما عاثوا في الأرض فسادا وتفننوا في زرع الرعب، وممارسة التقتيل والتنكيل بالجثث وانتهاك الحرمات، واستلاب الممتلكات، لكن الأحرار تصدوا له ولم يخضعوا لأساليب الغزاة الهمجية الضاغطة وقاوموها، فأكرم الله تعالى الكثير من الأحرار بالشهادة. يوم الشهيد صورة ذكرى من الماضي أثقلتني بهَمّ الرسالة التي تحملها، وشعرت أن الحديث عن يوم الشهيد كبير كبر حجم قضية الجزائر وتضحيات أبنائها، فضلا عن أنه بمثابة تنبيه واضح عن استخدام مصطلح "الحرية" الذي يستغل عادة في التلويح إلى ترسيخ مآثر الثورة التحريرية المجيدة في وجدان الشباب. وبما أن الذاكرة هي قدرة النفس البشرية على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستعادتها، فإن الأقوياء فقط يتذكرون، والكبار فحسب يجعلون من شواهد التاريخ مفاصل للذاكرة وفواصل للتذكر لهم وللأجيال اللاحقة، ومن هذا المنظور يحق لنا القول إن من يصنعون التاريخ هم فقط الذين يملكون الذاكرة وهم مع الخيرين من يحق لهم الذكرى والعبرة. والذاكرة هي التراكم الذهني لذكريات متنوعة مفرحة ومحزنة تغذي التصورات والتخيلات المختلفة، وتلعب دور الإسمنت الذي يجمع بين الأفراد في مجموعة بشرية قد تتسع إلى درجة تحدث هذا التماسك دون التعارف أو الاحتكاك، فتساهم في توجيه النشاط البشري فرديا كان أم جماعيا نحو الأفضل. إذن فوظيفة الذاكرة وظيفة شعورية مرتبطة بالحاضر، وتوظف الماضي من أجل الحاضر والمستقبل. ففي التذكرة منفعة للوطنيين أصحاب العقول الراجحة، والنفوس التواقة للوعظ والتذكير حتى لا تنتكس ولا تحيد عن طريق الصواب. على هذا الأساس لا ينبغي التقليل من أهمية الذكرى، ذكرى الشهيد، بل على الجميع أن يقدرها حق قدرها، ويعترف بدورها، ومن غمطها حقها، أو ضرب صفحا عن تمجيدها، أو عميت بصيرته عن حقائق الأمجاد فلن يكون إلا ضد مصلحة الجزائر وأبنائها. ولا شك إذن أن ذكرى يوم الشهيد" 18 فبراير" ومثيلاته من الذكريات تثير فينا الشجن، وتعود بنا إلى الماضي الذي نرفض نسيانه، ذلك أن الذاكرة تستحضر أحداثا لا يريد أصحابها نسيانها، بل وتقنع الأفراد بأن هذه الأحداث جزء من ذاكرتهم الفردية وبالتالي الجماعية، ومنه تساهم الذاكرة بشكل أو بآخر في خلق جو من الفخر والاعتزاز، بل وحمل الأجيال اللاحقة على تقدير جهود الأجيال السابقة. * قد تسألني من هو الشهيد؟ لا أريد الإفتاء، ولا أعتمد الفتوى، لكن ببساطة أقول إنها كلمة مشتقة من الجذر الثلاثي شهِدَ، وتعرف لغةً بمعنى الحاضر في الواقعة والشاهد على مجراها، ولن أكون مبالغا إذا قلت إن الكلمات والمفردات تعجز عن وصف الشهيد، ذلك الإنسان الذي اختصر حياته بإرادته وذاته حين صاغ الوطن لحناً على قيثارة سعيه، ونشيداً وأهزوجة عشق أبدي اختلط فيها دمه بالتراب ليرسم على صفحات الزمن وفوق خارطة الوطن صورة بحروف من نور تلون صفحات التاريخ بأجمل الألوان، فيغدو نبراساً مضيئاً ويبدأ التاريخ من لحظة تضحيته، جعل تحرير الوطن هدفا، وعزته غاية، ورفعته هي المقصود، استصغر الموت في سبيل أن نتمتع اليوم نحن والأجيال بعدنا بجزائر حرة، فالشهيد قد أيقن أن سؤال الحرية ليس ترفًا فكريا ولم يكن يوما كذلك، ولم يعد مقبولا أن ينظر إلى الحريات على أنها هبة أو مكرمة يتصدق بها على المجتمع، وإنّما هي حقّ طبيعي مشروع يجب استرجاعه، ولا يمكن أن تحتكر مقاليدها بيد عدو الأمة يفتحها أو يوصد أبوابها متى يشاء.. فالشهيد أقدم على الجهاد وهو موقنا أن الحرية ليست شأنا فرديا خاصا، بل هي مسؤولية يشترك في حملها من أصغر راشد في المجتمع إلى أكبر دولة أو تنظيم أو نظام في الوطن، هذا هو مفهوم الحرية عند الشهداء خاصة وأسلافنا الخيرين عامة. يقول الشيخ عبد الحميد ابن باديس: "فحق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، والمتعدي عليه في شيء من حريته، هو المتعدي عليه في شيء من حياته."01. لهذا يحتفل ابن باديس بعيد الحرية للتعبير عن شوقه إليها وتسجيل، وقفة للتأمل ورسم معالم جديدة لتحقيق مكاسب في طريق التحرر إذ يقول " إننا هنا نحتفل بالحرية ونفرح مع الأحرار، وإن لم نكن نلنا من تلك الحرية المحبوبة حظنا بعد، لأن الحرية والإنسانية محبوبتان ومقدستان لذاتهما" 02. ولأن صورة الشهيد يمكن إدراكها من خلال تطبيق هذه القيمة على الجميع، وحين تسود يتمتع كل فرد بحريته من دون أن يتجاوز حدود غيره، لكن إذا غابت المساواة أو سادت المساواة المنقوصة وقع الخلل، فالحرية لا ينبغي أن تعطي لمجموعة مع حرمان مجموعة أخرى. ومن نافلة القول إن تنشئة نفوس تستلهم هذا المبدأ الإنساني لا تبتغي إلا مجرد تحقيق كمال الصلاحية لتلتقي الحقوق والالتزام بالواجبات، سواء في المواقف إزاء التضحيات الوطنية أو في المواقف إزاء المعاملات الاجتماعية. وبغير احترام مبدأي الحرية والعدالة في المجتمع، وتزويد أفراده بالمفاهيم والتصورات التي تمكّنه من الحفاظ على هذه القيم، لتتحول من علاقة جامدة منغلقة إلى علاقة تفاعلية تواصلية تنسجم والمثل العليا للوجدان الإنساني، سيضيع سؤال الحرية، وينسي الناس معناها، ويفقدون طعمها، فتسيطر بعد ذلك على عقول الناس أشباح الظلم والظالمين، وأوهام الفاسدين والمرجفين، الذين فضلت أفكارهم، وتبلدت أحاسيسهم، وقتلت فطرتهم. ولعل كبت الحريات، وهضم الحقوق، ومقاومة دعوات التحرر من أغلال العبودية الفكرية والسيطرة المادية، من أهم علامات تشجيع الانحراف السلوكي، والميوعة بين الشباب، وشيوع الفساد الإداري والمالي بين الكبار، وسبب انتشار الفقر والبطالة، وانعدام تكافؤ الفرص واختفاء القدوة الصالحة. والتساؤلات الملحة هنا هو، أيمكن أن نعتبر أن مبدأ الحرية ما زال باقيا فينا، وأن أرواح الشهداء مازالت معنا في قلوبنا وأرواحنا؟، أيصح أن نتحدث عن الوفاء لا أرواحهم، وقد نسينا أبناءهم وأراملهم طيلة ستة عقود ونصف من الاستقلال؟، هل يصح القول إننا أحيينا ذكراهم والجيل لا يعرف أسماءهم؟، أليس عدم الوفاء للشهداء بداية للهزيمة الحقيقة لأي أمة؟، أنترك الصورة الرمز تتلاشى في خضم الأيام والمسافات كما تذوب الأحجار الكريمة في الأحماض؟، أو نرضى أن نرى التاريخ يقزّم؟. وبعيداً عن مسألة التهريج السياسي والعودة إلى عهد الصراعات، يمكن التأكيد على أن حديثنا عن صورة الحرية التي اقترنت بالتاريخ، هي الحرية السياسية التي نستشف أنها لا تدرك إلا في صميم الفعل، في حراك إنساني يتمثل في أحداث اجتماعية، أكثرها بروزا الحريات الفردية والعدالة في الحقوق، وهذا لا يعني أننا نلغي الفضاءات المتعدد للحرية، بل نؤكد على ما للحرية من مكانة محورية بين مجموعة القيم التي تحدد الفاعلية التاريخية والحضارية للأمم، وساءنا تغييبها عن جزء من مجتمعنا. إننا نرى أن الحرية في جوهرها هي إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطريقة التي يرونها طالما لا يحاولون حرمان الغير من مصالحهم، أو لا يعرقلون جهود غيرهم.. ونأمل أن يكون يوم الشهيد بداية لترسيخ التلاحم بين شرائح المجتمع، من أجل الحفاظ على أمن وطننا العزيز واستقراره وحماية مصالحه من التقزيم والفساد. 01 و02 * د: مولود عويمر…عبد الحميد بن باديس مسار وأفكار boukehil.blogspot.com