ذكر ابن قيم الجوزية في كتابه شفاء العليل قصة عجيبة من قصص النمل قال:حدثني من أثق به أن نملة خرجت من بيتها فصادفت شق جرادة فحاولت أن تحمله فلم تستطع فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها قال: فرفعت ذلك الشق من الأرض فلما جاءت مع أعوانها طافت في مكانه فلم تجده فانصرفوا وتركوها قال: فوضعته فعادت تحاول حمله فلم تقدر فذهبت وجاءت بهم وأثناء غيابها قمت برفعه من الأرض فلما عادت طافت في مكانه فلم تجده وفعلت معها ما فعلت في المرة الأولى مرارا وفي المرة الأخيرة استدار النمل في حلقة وأحاطوا بالنملة الهازلة وقطعوها عضوا عضوا. فهذه القصة العجيبة التي لا مانع من حدوثها تدل على صرامة النمل وحرصه على الوقت وعلى ما ينفعه ولو أدى ذلك إلى التضحية بمن يقف في طريق حرصه وصرامته وأنا أسوق لك الآن قصصا عجيبة حقيقية في اللامبالاة والهزل وعدم الإهتمام بالمسؤولية والأمانة حدثت ولازالت تحدث مع بشر ميزهم الله بالعقل واختصهم دون غيرهم بالشرع العادل وسنوا لأنفسهم قوانين للإنضباط والصرامة وكتبوها في شعارات عريضة وكبيرة وعلقوها في الساحات والطرقات وعلى مداخل الإدارات وغيرها مثل: ''العمل والصرامة لضمان المستقبل'' و''العلم في خدمة الإدارة الفلانية والإدارة الفلانية في خدمة المواطن'' و''راحة المواطن وخدمته أولوية إدارتنا الفلانية''... القصة الأولى: وما أكثر ما تحدث موظف في إدارة عمومية وظيفته مرتبطة بمصالح الناس يحضر إلى عمله متأخرا بساعتين ويخرج قبل الوقت بساعتين ويقضي معظم الوقت المتبقي في الدخول والخروج أحيانا لإحضار قهوة وأحيانا للذهاب إلى المرحاض وأحيانا لإجراء مكالمة هاتفية وربما رن هاتفه النقال فيطلب من المتصل أن يقطع المكالمة إشفاقا عليه على أن يعاود الإتصال به عاجلا من هاتف المؤسسة ''باطل'' كل هذا والمواطنون ينتظرون قضاء مصالحهم المرتبطة بعمل هذا الموظف الصارم في لامبالاته وعدم اهتمامه وإذا تجرأ أحد على المعاتبة والإعتراض رد عليه بلباقة لا نظير لها ''دز معاهم'' ''اللي تقلق إيروح'' ''نخدم كيما نحب''...ومن أعجب ما رأيت في هذا المجال موظفة في شباك البريد كان حالها على ما وصفت لك فانتفض عليها أحد المواطنين الذين كانوا ينتظرون في الطابور الطوووويل فردت عليه غاضبة: ''راني نخلص فيك وتزيد تهدر'' كأنها تعطيه ذلك المال من حسابها الخاص صدقة عليه! ولله في خلقه شؤون القصة الثانية: وما أكثر ما تحدث ارتفعت الحمى لابني الصغير وكانت الساعة تشير إلى حوالي الثانية صباحا فحملته وتوجهت بالسيارة إلى المستوصف البلدي الذي يضم جناح الإستعجالات ولما وصلت وجدت الباب مقفلا والأضواء مشتعلة بالداخل فطرقت عليه عدة مرات فلم يرد علي أحد ثم عدت أدراجي على وجل من أن يخرج أحدهم ويرفع علي دعوى قضائية بسبب الإزعاج! وأخذته مرة أخرى إلى العيادات المتعددة الخدمات في النهار والشمس طالة والوقت وقت عمل ولما وصلت ردتني الممرضة بحجة أن الطبيبة قد أكملت نصابها من المرضى ''خدمت لاطاش''! فحوقلت وضربت أخماسا في أسداس وتوجهت به إلى طبيب خاص فاستقبلني ب600 دينار وانصرفت من عنده وبحوزتي وصفة قيمتها 2300 دينار فتوجهت إلى الصيدلي الذي صفعني بقيمة الوصفة ولما أخذتها إلى صندوق الضمان الإجتماعي ''الكازورال'' قالوا لي ينبغي قبل أن ندفع لك التعويض أن نمررها إلى المراقبة الطبية ''الكونترول ميديكال'' لأن قيمتها أكبر من 2000 دينار ''واطلب زهرك فربما قبلت وربما رفضت'' فقلت: وكم يستغرق ذلك من الوقت؟ فقيل لي: ''أطلب زهرك ربما شهرأو شهرين أو أكثر''! وصدق أو لا تصدق القصة الثالثة: وما أكثر ما تحدث عقلية اللامبلاة وعدم الإهتمام ليست خاصة بفئة الذين ترتبط مصالح الشعب بوظيفتهم بل إنها تكاد تنسحب على مجموع الشعب والقصة الحقيقية الآتية تبين هذه الظاهرة حيث اتفق شخصان على الإلتقاء في موعد حدداه ولما حان الموعد لم يحضر أحدهما ولم يكلف نفسه عناء الإعتذار من صاحبه مع أنه التقى به عدة مرات تعرفون لماذا؟ لأنه كان ينتظر من صاحبه الذي حضر الموعد أن يأتيه ويسأله عن سبب عدم مجيئه! فانظر إلى هذا المنطق المعوج المبني على اللامبالاة وعدم الإهتمام بالوعد والوقت فقلت تعليقا على هذه القصة: الوقت في هاذي البلاد من أبخس ما عند العباد، وإن شئت دليلا ورأيا أقوم قيلا، فاضرب لأحدهم موعدا واجعله وقتا محددا، فسوف يأتيك إن أتى وقوله واحسرتا، عليك لا تسألني لم تأخرت عني، لأنني سهرت في الليل وقد نسيت، موعدنا المضروب وأجلنا المكتوب، ويأتيك بالدليل من سنة الرسول، أن الناسي معذور وعذره مجبور، وما درى المسكين أن الوعود تبين، عن صنفين من الناس مختلفين في الأساس، موفي الوعد صادق ومخلف له منافق، وأن إخلافه للوعد عن إرادة وقصد، كما أن الوقت لديه لعبة بين يديه، ولو كان للوقت حافظا وللعهود محافظا، لأتاك قبل الوقت خوفا من الفوت، لكنها السفاهة دعواها للنباهة، نباهة ولكن في أسفه المواطن.