بقلم: حسن العاصي كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمارك سبق وأكدنا في أكثر من موضع أن العرب عموماً لم يستطيعوا بناء مشروع سياسي واقتصادي في القارة الإفريقية، على الرغم من التاريخ الطويل لهذه العلاقات، مما مكن إسرائيل الدخول إلى القارة السمراء من الأبواب الاقتصادية والأمنية. وهذا بالطبع حصل على حساب المصالح الفلسطينية. وبالرغم من أن فلسطين عضو دائم في منظمة الوحدة الإفريقية، إلا أنه يجب القول أن العلاقات الفلسطينية-الإفريقية قد شهدت تراجعاً لأسباب موضوعية بظني، أهمها انتهاء عالم ثنائي القطبية، وقيام أشكال جديدة للعلاقات الدولية أساسها المصالح والمنفعة وليس الأيديولوجيا. المصالح هي عنوان العلاقات الافريقية-الإسرائيلية في ظل ضعف أو انعدام الإمكانيات الفلسطينية على المستوى الاقتصادي، إذ أن السلطة الفلسطينية نفسها تحصل على مساعدات ومعونات اقتصادية من عدة دول، وبالتالي لا تستطيع تقديم دعم مالي لطرف آخر. كما أعتقد أن الدبلوماسية الفلسطينية لم تول القارة الإفريقية الاهتمام الذي تستحقه، ظناً منها أن هذه الدول لديها موقف ثابت وداعم للقضية الفلسطينية. على السلطة الفلسطينية أن تدرك أن الوضع قد تغير منذ نهاية القرن العشرين، لذلك يجب تفعيل دور السفارات الفلسطينية في إفريقيا، وعليها أن تضع الخطط الاستراتيجية مع العرب لمواجهة التمدد الإسرائيلي في القارة السمراء. إن القضية الفلسطينية تحتاج إلى حلفاء وأصدقاء دوليين، لدعم القرارات التي تصدر من المحافل الدولية والتصويت لصالح فلسطين. مما لا شك فيه أن اتفاقيات السلام التي وقعتها بعض الدول العربية مع إسرائيل، ومحاولات دول عربية أخرى التطبيع معها، شجعت بعض الدول الإفريقية على إعادة علاقاتها مع إسرائيل، وهو السبب ذاته الذي شكل دافعاً لإسرائيل للعودة إلى افريقيا، التي تنظر لها على أنها كتلة عددية يمكن الاستفادة منها في الأممالمتحدة وهيئاتها. ويكفي أن نذكر بعض النماذج عن الضرر الذي يسببه التقارب الإفريقي-الإسرائيلي على المصالح العربية والفلسطينية. -في سبتمبر العام 2015 قامت كل من توغو، رواندا، كينيا، بوروندي، بالتصويت ضد قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية يطالب إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. -قيام نيجيريا ودولة أفريقية أخرى لم نعرف من هي بالتصويت لصالح إسرائيل لشغل منصب رئاسة اللجنة القانونية في الأممالمتحدة في يونيو العام 2016، وكانت نيجيريا في العام 2014 قد امتنعت في مجلس الأمن عن التصويت على مشروع القرار العربي الذي يدعو إسرائيل إلى إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية في مدة ثلاث سنوات مما أدى إلى فشل القرار. وهناك أربع دول عربية أخرى صوتت لصالح إسرائيل في قضية اللجنة القانونية، لم يتم الكشف عن أسماء هذه الدول، ونظن أن مصر واحدة منها. -ربما القارئ لا يعلم أن هناك عدة قرارات صادرة عن مجلس الأمن وتدين إسرائيل، لكن تبني هذه القرارات وتنفيذها لم يكن جماعياً، إذ أن هناك بعض القرارات لا تلتزم فيها بعض الدول الإفريقية خشية من الغضب الإسرائيلي. في ديسمبر العام 2016 تقدمت نيوزيلاندا وفنزويلا وماليزيا ومعهم السنغال بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يدين سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. نجح الاقتراح وصدر القرار رقم 2334 بعد أن اكتفت الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت. هذا الأمر أغضب إسرائيل كثيرا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع السنغال، وأوقفت المساعدات المالية عنها، ولم تنته الأزمة إلا بوعد من السنغال بتأييد ضم إسرائيل كعضو مراقب في الاتحاد الإفريقي.
* مفاعيل الخلافات العربية–العربية فيما مضى كانت مصر تنظر للقارة الإفريقية على أنها واحدة من ثلاثة أعمدة تقوم عليها السياسية الاستراتيجية الخارجية، إضافة إلى البعد العربي والإسلامي، قديماً كانت القاهرة محط أنظار القادة الأفارقة المناضلين لأجل تحقيق الاستقلال لبلدانهم من الاستعمار البغيض، حين كانت مصر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشعوب القارة، وكانت مصر تعني الكثير لإفريقيا، كقوة سياسية ومعنوية. هذا ما كان، أما ما هو حاصل الآن فإننا أمام انسحاب مصري-عربي طوعي من إفريقيا لصالح قوى أخرى منها إسرائيل التي إن واجهت استراتيجيتها في افريقيا صعوبات ومواجهة، فإن مصدرها سوف يكون من بعض الدول الإفريقية ذاتها، وليس من قبل العرب، هذا لأن ما كان يعرف بأنه "النظام العربي" منهار بفعل وأسباب عربية، و"التضامن العربي" مصاب بموت سريري نتيجة أمراض عربية، و"الأمن القومي العربي" في حالة غيبوبة بسبب نقص المناعة. ومما يثير الحسرة والغضب أن ينتقل الخلاف العربي-العربي ومفاعيله إلى القارة الإفريقية، مما يخلف وضعاً بائساً لا يستفيد أحداً منه سوى إسرائيل، التي توظف حالة الانقسام العربي لبسط نفوذها في المنطقة. على سبيل النموذج فإن القمة العربية-الإفريقية التي عقدت في ملابو عاصمة غينيا في العام 2016 قد فشلت بسبب الخلافات العربية-العربية، وانسحاب عدد من الدول العربية. أيضاً قيام مصر غير المفهوم بسحب مشروع قرار في نهاية العام 2016 كان قد قدم إلى أعضاء مجلس الأمن للتصويت عليه، يتضمن إدانة لإسرائيل على أنشطتها الاستيطانية ويطالبها بوقفها، وهو القرار الذي تقدمت به دولاً أخرى منهم السنغال، بعد أن سحبته مصر وصدر بالإجماع. إن الإدارة الأمريكية تقدمت لعدد من الدول العربية بخطة لإنشاء تحالف عربي-إسرائيلي للتصدي للمنظمات الإرهابية في المنطقة وللوجود الإيراني، وسوف يشمل كلاً من مصر، السعودية، الأردن، الإمارات العربية المتحدة. وسيكون لجهاز المخابرات الإسرائيلية دوراً في تقاسم المعلومات الاستخباراتية مع الدول العربية، بما يمكن الشركات العسكرية الإسرائيلية من العمل في بعض الدول العربية. فهل يمكن لهذه الدول أن تساهم في وضع استراتيجية عربية لمواجهة النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا؟ بالطبع لا. نموذج آخر، فقد أدت الأزمة الخليجية إلى قيام الحلف المعادي لقطر بطلب من عدد من الدول الإفريقية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، وكان أن استجابت كل من جيبوتي وإريتريا، فما كان من قطر إلا أن سحبت كتيبتها العسكرية من "جزيرة دوميرا" المتنازع عليها بين جيبوتي وإريتريا التي استغلت انسحاب القوات القطرية، فقامت باحتلال الجزيرة. وهكذا خسر العرب موقعاً مهماً في إفريقيا. والخاسر الأكبر من هذه التناحرات والصراعات العربية-العربية هي فلسطين. نحن أمام حالة من الغيبوبة السياسية، أمام وضع فقد العرب فيه المقدرة على قراءة الواقع وتمييز العناصر وإدراك مصالحهم. * ماذا بعد إن القارة الإفريقية كانت تاريخياً كتلة حليفة لفلسطين وشديدة التعاطف مع القضية الفلسطينية، ولفلسطين تمثيل دبلوماسي في 22 دولة إفريقية. إن إلغاء أو تأجيل القمة الإفريقية-الإسرائيلية التي كان من المقرر عقدها في أكتوبر العام 2017 لا يعني أن إسرائيل منيت بهزيمة، إذ أن هناك معلومات اشارت إلى أن رئيس زامبيا "إدغار لونغو" قد وافق على استضافة هذه القمة. بالرغم من وجود جدار صد مكون من بعض الدول الإفريقية في وجه التمدد الإسرائيلي بعمق القارة الإفريقية، إلا أن الدول العربية لا تساهم في هذا النشاط بفعالية حقيقة باستثناء جمهورية الجزائر الشقيقة التي تبذل جهوداً استثنائية لترميم الفجوات التي يمكن أن تدخل منها إسرائيل إلى إفريقيا، وهذا الموقف من القضية الفلسطينية أبداً ليس غريباً على الجزائر التي قال عنها يوماً الزعيم "هواري بومدين" في العام 1974 "إن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" وهو شعار شكل جوهر السياسة الجزائرية تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. ونحن مقبلون على معركة المواجهة للتصدي لقرار الإدارة الأمريكية في نقل سفارة بلادهم إلى مدينة القدس، نأمل أن تبذل القيادة الفلسطينية ومعها العرب جهداً سياسياً ودبلوماسياً مغايراً عما هو حاصل، لمنع انهيار الجدار الإفريقي الذي مازال تقريباً متماسكاً، حتى لا تحذو بعض الدول الإفريقية حذو واشنطن، هذا الأمر سوف يشكل امتحاناً حقيقياً لمدى قدرة العرب ومعهم الفلسطينيون في رسم حدود لحركة الكيان الصهيوني في القارة السمراء. إن القضية الفلسطينية تواجه خطراً مزدوجاً، الخطر الذي يمثله الكيان الصهيوني من جهة، والخطر الناجم عن الانقسامات والخلافات العربية-العربية. فهل ما زال الخطاب العام في القارة الإفريقية إلى جانب حق الشعب الفلسطيني في الحصول على الحرية والاستقلال وفي حصوله على دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟ الحلقة الثانية والأخيرة