التوكّل على الله والاعتماد عليه والإيمان بتأييده ونصره، لم يكن يعني أبدا في منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، التخلّي عن واجب الإعداد وثقافة الاستعداد، وضرورة امتلاك حاسة الحذر والحيطة، وواجب عقلنة التحرّك، وحساب كل خطوة وكل فعل، بل وكل كلمة، في محيط عدواني يملك قدرة حشر الدعوة وكسر بيضتها. بدأ النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله في مكة، وفي وسط الحرم، الذي كان محاطا بهيبة الآلهة، وتُغلق منافذه وتملأ ساحاته رؤوس 360 صنما تركع لها القبائل وتقدم لها عرابين الولاء وفروض الخضوع تحت إشراف حكومة " دار النّدوة "، ومع أنّ محور رسالته التوحيد ومحاربة الشرك كجريمة كبيرة في حق الله " إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، إلا أنّه عمليا لم يتعرّض لها بالأذى ولا حطّم الأصنام ليلا ولا خلسة كما فعل إبراهيم الخليل، بل مكث في مكة 13 سنة لم يهدم صنما ولم يحرّض رجاله على ذلك، بل جاءه التوجيه وهو في مكة بوجوب الابتعاد عن سبها مراعاة للمآل، وأنّ قريشا قد يتعرضون كردّ فعل لسب الله علانية وجهرا مع عدم امتلاك المسلمين قدرة دفع الأذى: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغيرعلم ". ولجأ النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلى الاستفادة من نظام القبيلة، واحتمى بعمّه المشرك أبي طالب، وظلّ يمدّه بكلّ عون وبكل تسهيل طيلة 10 سنوات، وعندما اشتدّ الأذى بالمسلمين المستضعفين وقوي حصار الدعوة ومطاردة أهلها لجأ إلى السرية التي استمرت قرابة أربع سنوات، واتّخذ بيت الأرقم بن أبي الأرقم مقرا للإشراف على عمليات التحرك الفاعل والمعقلن لإنجاح الدعوة، ويعود سبب اختياره لبيت الأرقم إلى عدة عوامل تدخل في فقه التحرك المعقلن، أولها: أنّ إسلام الأرقم كان سريا ولم يسمع به كثير من الناس، وثانيا: كان شابا لم يجاوز17 سنة، ولا يمكن أن يتوقّع مشايخ قريش أنّ عملا كبيرا كالذي يقوده محمّد يدور في بيت شاب صغير، ثالثا: الرجل من بني مخزوم وبينهم وبين بني هاشم حزازات وصراعات قديمة من أيام الجاهلية، رابعا: الموقع كان في الصفا قبالة دار الندوة، حيث الحركة والمرور المكثف ودار الندوة، ولا يمكن لعاقل أن يتصور أن الدعوة تغامر بفتح مقر قبالة دار الندوة، كل هذه الإجراءات الدقيقة تكشف عن طبيعة المنهج المعقلن للنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم. ومع العجز عن حماية المؤمنين المستضعفين تطلّع النبي إلى الخارج وأرسل الطلائع الأولى من المؤمنين إلى دولة مسيحية تقوم على نظام العدل ورئيسها متدين ومؤمن بالكتاب السماوي، وهذا ما قد يوفّر الحماية لهم من أذى جهاز الشرك وشراسته. وعندما قرّر النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة اتّخذ كل التدابير العقلانية التي تحميه من المطاردة ومن الأذى، فاتّخذ دليلا عبد الله بن أريقط، وهو رجل مشرك ولا يثير الانتباه، وأعدّ وسائل الرحلة من زاد ومركب ومال ورفيق، وناور فاتّجه إلى غار ثور، ومكث به ثلاثة أيام حتى هدأت المطاردة، وأثناء ذلك كلف أسماء بالمؤونة، وعادة حسب طبيعة عصره لا ينتبهون إلى المرأة في مثل هذه المهام الضخمة، كما كان الراعي يمحو أثر السير، وكلّف من يأتيه بتقرير يومي عن الحالة في قريش، ولما اتّجه إلى المدينة خالف أصول السير، فلم يتّخذ المسلك المعروف والمعتاد، وكان يسير ليلا ويختبيء نهارا. كل هذه التدابير والإجراءات وهذا الفقه من الحذر والحيطة، رغم تكفل الله بحمايته "والله يعصمك من الناس" توجيه لأمته كي تتعلّم استخدام العقل وتوظيف المعلومات، وواجب الحذر وعدم المغامرة والمقامرة بالدعوة ورجالها استكفاء بقوة الإيمان والاستعلاء به. وفي المدينة استمر التوجيه يتتابع بواجب فتح العيون ورصد تحركات الأعداء والخصوم والأخذ بالحيطة والحذر "وخذوا حذركم"، لم يغفل النبي عن اليهود، فكلف من يدرس دينهم ويتعرف على لغتهم، وتعرف على تأثير المسيحيين في المدينة، وتتبع حركة النفاق بتوجيه من ربه، يرصدها ويتابع مشاريعها وتحالفاتها وخططها، "وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم". ويمكن تلخيصا أن نقول: إنّ التحرّك المعقلن عند النبي صلى الله عليه وسلم، قام على القواعد التالية: الرصد والمتابعة وتتبع خطط العدو ومعرفة رجاله ومستخدميه مراعاة الظرف والحال قوة وضعفا الاستفادة من عناصر الخير المبثوثة في المجتمع تجنب المعارك الوهمية وحروب الاستعراض من غير فائدة تجنب ثقافة الاستعداء العام وإثارة العدو بما لا يناسب الاستفادة من كل القوانين والأعراف محليا وإقليميا ودوليا التنازل المدروس في كل مواجهة لا خير من حدوثها أو استمرارها التحرك بمشاريع القيم وعدم تهديد مصالح الناس ولا أمنهم ولا استقرارهم فكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم الموصول بالله، بمثل هذا الفقه الدقيق، الفقه السنني أقدر على مواجهة الباطل ودحره أو استفراغه من الداخل أو إبطال خططه ونسفها، وقدّم من خلال سيرته العطرة دروسا عملية تطبيقية لأمته في كيفية التمكين للحق وإقامة الدولة والمجتمع بعيدا عن السطحية والسذاجة والانفعال والاندفاع ومعارك حرق الذات واستنزاف الداخل، وصدق الله: " لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة " أ. رابحي