كانتْ الزّحمةُ شديدةً في محطّة البنزين، صفٌّ طويل من السيّارات التي ينتظر أصحابُها أدوارَهم، بشيء من العَجَلةِ والعصبيَّةِ الملحوظة، وكانت محاولاتُ بعضِ السّائقين التّحايلَ على الطابور لكسب بعض الوقت تُصعِّدُ في إثارة الأعصاب، كما كانت أجهزةُ التنبيه في السيّارات ترتفع من حين لآخر مَمْزوجةً بصراخ بعض السّائقين، للتنديد بمحاولات التّسلّل التي لا يحترم أصحابُها أدوارَهم في الصّف.. لاحظتُ أحَدَ الشّباب خلفي يُحاوِلُ تجاوزي، يُطِلُّ برأسِ سيّارته ويتلاعبُ بعجلاتها في عصبيّةٍ، مُتوثِّباً يَبحثُ عنْ منفذٍ للتّسلّل، كانَ مرفوقاً بزوجته ووَلَدَيْن يَبْدُوان في سنِّ المدرسة، وكان يبدو عليه أنّه مُستعجِلٌ .. في إحدى مراوغاته من أجل التّسلّل، التي أطلّ فيها بخرطوم سيّارته حتى أصبح بموازاتي، سألتُه: ما سبَبُ كلُّ هذه الزّحمة، هل سينفدُ البنزين من المحطّات؟ أجابني: الزّحمة بسبب عيد رأس السّنة، وأضاف: أنا داخلٌ إلى تونس، ولا بدّ أن أملأَ خزّان السيّارة هنا، ثُمّ أضاف: أغلبُ هؤلاء مثلَ حالتي.. بَقَيْتُ في الطّابور مُدّةً طويلَةً أتلهّى بِمراوغات بعضِ السّائقين من أجل التسلّل، وببعض المُشادّات والصّراخ وبعضِ السِّبابِ والشّتائم أحيانا.. وعندما اقتربَ دَوْرِي لفتَ انتباهي العامِلُ بالمحطّة، الذي يَتَحرّك بِبُطْءٍ شديد وبشيء من الصّلفِ الظّاهر، وكأنّه يتعمّد تعطيل الزّبائن من أجل أن يَتراكَمُوا في الطّابور أكثر، أو كأنّه يُلْفِتُ الانتباهَ إلى أهمِّيتِه في تلك اللحظات الحسّاسة، ويتلهّى هو الآخرُ بالتّلاعب بأعصاب النّاس المُتْعبين من الطّابور!.. بَقَيْتُ أُمضي الوقتَ في مراقبته وهو يتقَمَّصُ دَوْرَ الرّجلِ المُهِمّ ويمارسُ السّلطة على مَنْ دُونَه من الزّبائن، وفُجْأةً رأيْتُهُ ينفجِرُ غاضبا بِشكلٍ غيرِ طبيعي، مُنْتَقِماً لكرامتِه المهدورة بِسِبَبِ إحدى السيّارات التي توقّفَتْ أمامَه، سَمِعْتُهُ يُطلق سيلاً من الكلام الفاحش، وهو يُزْبِدُ ويُرْعِد، مُتَوَجِّهاً بالتّهديد إلى سَائِقِ السيّارة التي تقفُ أمامه: تَبّاً لكم!..ماذا تَحسِبونَ أنفُسَكم؟ هل أنا خادِمٌ عِندكُم؟ أَنتم تذهبون إلى السيّاحة في تونس وأنا أَخْدِمُكُم؟!.. اشرأبَّتْ أعناقُ جماهير الزّبائن إلى السيّارة التي أمام العامِل الهائجِ، لِيَرَوْا الشّخص الذي انتقص من قيمتِه، أو أَصَابَهُ في شَرَفِهِ، إلى درجة أنْ جَعَلَهُ يَنْتَقِمُ لِكَرَامَتِهِ بتلك الطريقة الاستعراضيّة جدّا.. فُجْأَةً نَزَلَتْ من السيّارة امرأةٌ تبدو في سنِّ وَالِدتِه،كانتْ وحيدةً في سيّارتِها، كان يبدو عليها التّأثُّرُ الشّديد، والحياءُ الشّديد،ولا يبدو عليها أيُّ أثرٍ للعدوانيّة أو عدم الاحترام، ولكنْ يبدو عليها الانكسار الشّديد، بسبب ما سَمِعتْهُ من شَتائمَ سافِلةٍ، أَمْطرَهَا بها عَامِلُ المحطّة، لأنّها طَلَبَتْ منه بكلّ أدبٍ ورِقّةٍ أن يتكرّم بتعبئة خزّان سيّارتِها بالبنزين، بعد أن فتَحتْ الخزّانَ وهي بداخل سيّارتها، واستحْيَتْ أن تنزلَ أمام الطوابير الطويلة من الرِّجال!..هنا أطرحُ بعضَ الأسئلة، وأتركُ التّحليل للقرّاء: لماذا لا يحترِم الجزائريّون الطّابور؟ هل سلوكُ عامِلِ المحطّة راجعٌ إلى عدم تقديره لطبيعة عَمَلِهِ؟ أم إلى عدم تقديره لنفسه؟ ولماذا اعتبر عدمَ نزولِ المرأةِ لِفتحِ خزّان البنزينِ إهانةً لَهُ؟ تُمَّ لماذا تعاملَ معها بتلك القسوة؟ هل هو بداعي التّعويض والتّنفيس، طِبْقاً للمثل الشعبي القائل: ” اللي يغلبوه الرجّالة يْدَوَّرْهَا على النساء في الدّار” ؟ أم أنّها “الحُقْرَةُ” وعدم احترام المرأة؟ لماذا الانسانُ الجزائريُّ عنيفٌ وغضوب؟ هل لأنّ أعلافاً ثقافيّةً كثيرةً ظلّت تُغذِّي عَصبِيَّتَهُ من مثل: “عاش ما كْسَبْ ماتْ ما خْسَرْ”و “زَوَّالي و فْحَلْ” و”تاغنّانت تاخسّارت” و”فحل انْمُوتْ وما نحملشْ الذّلّْ”؟!..أوغيرها من الأعلاف التي تَصنَعُ المزاجَ الجزائريّ؟ أمْ هي الضغوطاتُ اليوميّةُ التي قد تُولِّدُ الانفِجارَ أو الانتِحَار؟