في أَجْوَاءِ المسيرات المليونيّة، يَسْقُطُ لِأَحَدِهِمْ هَاتِفٌ نَقَّالٌ، لم يَنْتَبِهْ إليه، فَيَتَسَارَعُ الجميعُ لالتقاطِه وإعادتِهِ لصاحبِهِ، يَسْقُطُ لِأَحَدِهِمْ العَلَمُ الوطنيُّ فيَتَسارعُ جميعُ مَنْ حَوْلَهُ لِاحتضانه ورفْعِهِ بحنانٍ ومَشَاعِرَ مُنْقطعةِ النّظير، لَا أَحَدَ يرمي منديلاً من الورق على الأرض، ولا غلافاً صغيرا لِحَبَّةٍ من الحَلْوى، إذا دَاسَتْ رِجْلُ أَحَدِهِمْ سَهْواً رِجْلَ الشَّخصِ الذي بجانبه في المسيرة، يُسَارِعُ الثَّاني الذي تعرّض لِلدَّوْسِ بالاعتذار قَبْلَ الأَوَّلِ الذي دَاسَ سَهْواً.. أَنَاقَةٌ لَافِتَةٌ في المَلْبَسِ والسُّلوكِ والكَلام، لا تَسْمَعُ كَلِمَةً نَابِيَةً.. تَبْدُو السّعادةُ على الجميع، يضحك النّاس مع بعضِهم بعضاً، ويتبادلون النُّكَتَ والتّعليقات السّاخرة، دون أن يكونوا قد تعارفوا من قَبْلُ، لقد تخلّى النّاسُ على كَثيرٍ من أشكال الإحباط أو العُزْلَةِ والتّحفُّظِ من الآخرين، واختفى التَّجَهُّمُ وثِقَلُ المِزَاجِ تماماً.. من الظواهر اللافتة للانتباه في هذا الحراك أيضاً، أنَّ التَّصْويرَ و”السّيلفي” أَصْبَحَ هوايةً شعبيّةً مُسَلِّيَةً ومُدْمَنَةً في كلّ مكان، فبعد أن كان كثيرٌ من الجزائريّين يَتَحَفَّظُون من نَشْرِ صُوَرِهِمْ في وسائل الإعلام، ويَعْتَبِرون التَّصْوِيرَ يَمُسُّ بالخصوصيّات الشّخصيّة، أصبح الجميعُ يتسابقون في نشر الصور و”السيلفيّات”، وكان الأكثرَ لَفْتاً للانتباه هو التسابقُ إلى نشر صُوَرِ عائلاتٍ بأكملها مُتَوَشِّحَةً بالعَلَمِ الوطنيّ ومُجْتَمِعَةً في الشّارعِ، لقد أصْبَحَ التَّصْوِيرُ الوسيلةَ الأولى للنّضال بفضل هذا الحَراك، كما أنّ الأكثر لفتاً للانتباه أيضاً هو تَجَاوُزُ المرأةِ الجزائريّةِ لِعُقْدَةِ التَّصْوِيرِ، وعُقْدَةِ نشْرِ صُوَرِهَا في الفضاء العام، فقد كانت النّسوةُ سعيداتٍ بأخذ السيلفيّات ونشر ذلك عبر كُلِّ وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر القنوات التلفزيونيّة والصّحف.. هذه التّحوُّلات المفاجئةُ قد تبدو شكليّةً، على الرّغم من أهمِّيَتِها، لَكِنَّ التَّحَوُّلَ الأَكْثَرَ أَهَمِّيَةً على الإطلاق، هو بُرُوزُ بَوَادِرَ لِوَعْيٍ عامٍّ بالمُواطَنَةِ غيرِ مسبوق، من خلال مظاهرِ الانْضِباطِ والتَّعاوُنِ والاحترامِ والشُّعُورِ بالمَسْؤوليَّةِ والتَّخَلِّي على كثيرٍ من الخلافات والنّرجَسيّات المختلفة، ففي الشّارع اليَوْمَ:شبابٌ في عمر الزهور، نساءٌ ورجالٌ، شيوخٌ وأطفالٌ، فئاتٌ مهنيّةٌ واجتماعيّةٌ مختلفةٌ، علمانيّون وإسلاميّون، حداثيّون ومُحَافِظُون، مُفَرْنَسُون ومُعَرَّبون، يساريّون ويمينيّون.. إنّها بدايةُ الوَعْيِ بِمُقْتَضَيَاتِ المُوَاطَنَة الحقيقيّة، حيث تغيبُ كلُّ مظاهر التّفرقة والطّبقيّة، فلا إيديولوجيا، ولا جهويّة، ولا فئويّة نخبويّة، ولا عروشيّة، ولا عِرْقيَّة، ولا صراع بين الأجيال.. وهي بدايةٌ يُمْكِنُ للجميع أن يستغلّها لتنميّة وترسيخِ سُلُوكِ المُواطَنَةِ، الذي يُتِيحُ لكل الجزائريّين التَّعبيرَ على أنفسهم، ويُتِيحُ لهم المساواةَ وتكافؤَ الفُرص، كما يُتِيحُ لهم العيشَ المُشْتَرَكَ والتّفَاعُلَ الإيجابِيَّ رغم التَّنوُّع في الأفكار والمشارب…الحقيقةُ أنّ هناك تَحُوُّلَاتٍ تَحدُثُ اليومَ بالجُمْلَةِ، على المختصّين في علم الاجتماع وعلم النّفس، وفي علم السيّاسة والخطاب وغيرها من التّخصّصات ذات العلاقةِ بالواقع، أن يدرسوا أَسْبَابَها ومُخْرَجَاتِهَا، وكيف يتمُّ استثمارُها إيجابيّاً، حتّى لا تكون مَوْجَةً عابرةً، يزولُ مفْعُولُها بِزَوَالِ الظُّرُوفِ الحاليّة..