هم في أغلب الحالات أبناء لأمهات ذوات مستوى تعليمي منخفض أو لم يتلقين تعليماً على الإطلاق، حسب تقرير لمنظمة اليونيسيف، وبالتالي لا تقدرن التعليم قدره الكافي، ولا تترددن عن الدفع بأطفالهن إلى سوق العمل سعيا وراء المردود المادي، وهن غير مدركات لعواقب ما قد يتعرض له الأطفال في الشارع من ظواهر اجتماعية وتربوية خطيرة، بل قد يتطور الأمر ويتحول الطفل إلى ''طفل شوارع'' بكل ما تحمله الكلمة من مخاطر. أطفال ترمي بهم الظروف من مقاعد الدراسة إلى الأسواق الموازية غالباً ما تكون ظروف العمل المحيطة بالأطفال كارثية ولا تراعى فيها الشروط الصحية ولا المقومات الإنسانية المطلوبة، وأكبر مشكلة هي أن المهن التي يتعاطاها الأطفال الفقراء؛ تشكل خطراً كبيراً على صحتهم البدنية وعلى نموهم العقلي؛ واللائحة كبيرة منها: العمل في الإنشاءات المعدنية وتركيب الأجهزة الالكترونية والعمل في قطع الحجارة ونحتها والعمل في دهن السيارات والحدادة والنجارة وكل ما له علاقة بالمواد الكيميائية التي لو استمر الأطفال في استنشاقها بشكل مستمر فقد تكون لها تداعيات خطيرة على أجسام لا تزال لينة وغير صلبة، ناهيك عن ما يتعرض له الأطفال من تعنيف وضرب من قبل أرباب عملهم. والمفارقة الغريبة في أحوال هؤلاء الأطفال الذين خاضوا عالم الشغل مبكرا أنهم لم يغادروا مقاعد الدراسة بإرادتهم ولا كانوا من الفاشلين، بل دفعتهم الظروف القاهرة عنوة إلى التخلي عن أحلام المستقبل كأقرانهم، فغالبا ما كان التحاقهم بعالم الشغل نسبيا أي في العطل الموسمية ونهايات الأسبوع، ومع تعودهم وأسرهم على الدخل اليومي الذي يحققه عملهم بالأسواق الموازية، اضطروا لهجر مقاعد الدراسة إلى غير رجعة، أو طردوا بسبب كثرة التغيب والإهمال في الدروس، إذ يجدون أنهم أكثر مردودية وفائدة لأهلهم الذين يكرسون اختيارهم ويرحبون به لذات الأسباب. عزيز 11 سنة، غادر مقاعد الدراسة في السادسة ابتدائي بعد أن فشل في نيل شهادتها منذ المرة الأولى، والسبب هو التحاقه بعالم الشغل كبائع للأكياس البلاستيكية بساحة الشهداء. التقينا به عند مدخل سوق علي ملاح الذي تحول إلى أكبر سوق يشهد اكتظاظا يوميا للزبائن الذين يتوافدون عليه بالآلاف، ''وغالبا ما يدخلون السوق دون أن يلتفتوا إلى الأكياس التي أحملها أنا و أصدقائي، لكنهم يبحثون عنا بأنفسهم عند الخروج، خاصة النساء الذين يحرصون على شراء ساشي شباب''. هكذا قالها ضاحكا وهو يتذكر الكثير من الطرائف مع السيدات فمنهن من يناديها بأختي ومنهن من لا يتردد بمناداتها ''يما'' فيرق قلبها نحوه. ويضيف أن الكثيرات تدفعن له قطعة 20دج وتتنازلن عن الباقي عن طيب نفس وخاطر، وهناك من تعطف عليه وتمنحه قطعة نقدية خلسة وكأنها تخفي صدقتها حتى لا تحرجه، خاصة في أوقات يصفها عزيز أنها عصيبة كالبرد الشديد أو الحر. أما عيسى بائع صغير ب ''ساحة الشهداء''، مازال يتمتع بنوع من الحياء في التعامل مع الزبائن كونه جديدا في الميدان، ''مازلت أدرس في الخامسة ابتدائي، ولا أبيع الأكياس إلا عند خروجي من المدرسة، وأستغل عشية الاثنين والخميس لأنني لا أدرس فيهما''. ثم يضيف ضاحكا ''أحيانا ألتقي آنستي وجها لوجه فأختبئ منها'' ويقصد معلمته، خاصة وأنها غير راضية عن عمله، هذا وقد سبق وأن حذرت والدته من إرساله إلى السوق للعمل لأن هذا سيؤخره عن الدراسة، حسب ما أخبرنا به. لكنه يؤكد أنه يحب المدرسة ولا ينوي مغادرة مقاعدها، لكن الفقر والحاجة هي التي دفعت به إلى امتهان بيع الأكياس البلاستيكية التي يجلبها له والده ليتربح ويساعد في مصروف البيت، ويقول أيضا إن والده يشتريها بالجملة وهي رخيصة بثمن الجملة، لكن التجزئة تجعل فيها ربحا وفيرا غالبا ما تفرح به والدته، خاصة في المناسبات وعلى رأسها شهر رمضان الأخير الذي عمل فيه وكسب جيدا ليس فقط في بيع الأكياس، بل ''المطلوع'' أيضا و''الديول''، مما دفع والدته إلى أن تشتري له كسوة العيد كما لم يسبق أن فعلت. أما عن أيام البرد والحر الشديد فيقول سمير ''والدتي تخاف على صحتي وترفض أن أعمل حين يسقط المطر، خاصة وأنني أعاني من الحساسية الصدرية والبرد والمطر يزيد حالتي سوءا. ولم يتردد عبد الصمد أحد زملاء الطفل عزيز الذي فتح لنا قلبه في القول إن هذا العالم مليء بالمشاكل، وأن البائع الجديد مثله يتعرض إلى المضايقات حتى لا يزاحم القدامى في رزقهم. هذا من ناحية كما أنه معرض هو الآخر إلى السرقة عند نهاية اليوم أي عن استواء الغلة التي يجمعها ليعود بها إلى أهله. ويضيف عبد الصمد أن الباعة القدامى الذين يرفضون تواجده تآمروا على سرقته عدة مرات في بداية التحاقه بالعمل في زوج عيون، وذلك ليكره العمل ويقصد بذلك يسأم ويترك المكان، لكنه أصر على البقاء لأن ''الغاشي كامل فيه'' وبالتالي الربح فيه أيضا.