منذ زمان بعيد والناس يعيشون رمضان بأسلوب معروف ونموذج متميّز ، يزيد رمضان جمالاً وبهجة ، ولولا هذه التغيرات في أسلوب الحياة في رمضان ما أحس الناس طعماً لرمضان ولمرّ كما تمرُّ الأشهر الأخرى ، وهذا لا شك من العادات والأعراف الرمضانية المعروفة. وليس صحيحاً أن يقف الوعّاظ وبعض أهل العلم أمام هذه العادات بالدعوة إلى إلغائها ومحاولة فرض أشكال الحياة العادية على شهر رمضان والدعوة إلى التعايش مع رمضان كما يتعايش الناس مع الأشهر الأخرى ، ولا بأس بتهذيبها وتنقيتها من المخالفات الشرعية أمّا الدعوة إلى محاربتها ، فهذا غير صحيح . إن عامة الناس وخاصتهم يحتاجون إلى فترة من العام تنقلب حياتهم فيها رأساً على عقب ، تُجدّد فيها النفوس ودورة الحياة ويذهب الملل والحالة الاعتيادية التي تعوّدوا عليها ، فحين ينقلب النهار جوعاً وعطشاً والليل شبعاً وريّاً ، ويصبح النهار سكوناً وخشوعاً والليل يمسي حركة وحيوية بالحياة والصلاة والقرآن. والملاحظ على مستوى الأمة كلها أن المدارس والدوائر الرسمية والشركات الخاصة - إلا القليل - تعمل كلها في رمضان بطريقة تختلف عن الأشهر الأخرى ، حين يحدث كل هذا فإن الحياة تتجدد والنفوس تنعتق من روتين العام وطريقته في الحياة مما يحدث عند الناس تغيرات كبيرة في نفوسهم وحياتهم. من وجهة نظري الخاصة أرى أن العادات الرمضانية أمرٌ لا بأس به وقد تكون شيئاً مهماً إذا كانت سبباً في حب الناس لرمضان وتشوقهم إليه ، فهذه الانقلابات تصبح بمثابة أساليب الجذب ، وطرائق الإقناع لا سيما إذا ما استغلها العقلاء استغلالاً سليماً . ولقد تغنّى بذكريات رمضان كثير من الأدباء ومن أشدهم تغنياً أستاذُ الجيل الإمام علي الطنطاوي - رحمه الله - في أكثر من موضع من مؤلفاته ، قال رحمه الله في حديثه عن مزعجات رمضان في كتابه (مع الناس) : ''ولست أعني بالمزعجات الجوع والعطش واضطراب ميزان اليقظة والمنام فذلك شيء لا بد منه ، ولولاه لم يكن لرمضان معنى'' ... وله رؤى لا تتوافق مع عصرنا هذا وقد انتقدها بشدة أثناء رمضان ونحن نعيش في عصر يتصل فيه النهار بالليل دون توقف فكيف برمضان ؟ وممن تغنى بذلك أيضاً الأديب مصطفى صادق الرافعي في مقالته بعنوان (شهرٌ للثورة) قال عليه رحمة الله : ''فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو ، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالجة الأمور، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح '' . منذ أن أدركت وأنا أرى الخطاب الدعوي في رمضان مكروراً والأسلوب معاداً لا يتغير ولا يتبدل سواء في ماهية الخطاب أو في طريقة العرض إلا في النادر . أما من ناحية الخطاب فالغالبية العظمى من الدعاة لا يحسنون غير قراءة كتاب حفظه الناس واستوعبوا ما فيه لأنه يتكرر عليهم في كل سنة وبنفس المواضيع التي صارت الأمة تحفظها ولا تجهل إلا اليسير منها كحكم الصيام وشروطه ومكروهاته ومبطلاته وفضله وفوائده . وأما من ناحية الطريقة فيقدم الدعاة عدة محاضرات قبل رمضان وفي رمضان يقرأ كل إمام مسجد موضوعاً بعد صلاة العصر، أو بعد التراويح، أو توزع بعض الأشرطة على أهل الحي بالإضافة إلى خطبة الجمعة التي حفظها الناس، لأن الخطيب يعيدها في كل رمضان وبنفس الترتيب والنص ! وأقصى التجديدات أن يتحدث بعض الدعاة أو العلماء عن الجهاد في رمضان بعرض المعارك التي وقعت في رمضان، وأنه شهر النصر والظفر. كل ذلك خير ندعو إلى الاستمرار فيه ولكن مع إضافات في الخطاب الدعوي الرمضاني قد يغفل عنها المهتمون بهذا الأمر.. والخطاب عموماً له جناحان يطير بهما في عالم التأثير : الأول هو نوعية الخطاب ، والثاني هو طريقة العرض والأسلوب . يتبع...