لا أحد بقصبة الجزائر العاصمة يجهل اسطورة امرأة تدعى ''فاطمة لمعكرة''، تلك الفتاة التي ذاع صيتها في أوساط المجتمع العاصمي الذي كان محافظا. فيما مضى وفي دويرات القصبة العتيقة حين يهم رب العائلة بالدخول إلى بيته يصدر صوتا ''ينحنح'' فتفر إثرها النسوة اللائي يجلسن في وسط الدار كل واحدة منهن نحو غرفتها، تعبيرا عن خجلهن وحسن أدبهن، في حين كانت ''فاطمة'' أو ''فاطمة لمعكرة '' وسميت ب''بالمعكرة'' لأنها كانت كثيرة الحركة، لا تشبه بنات جيلها، غير مهذبة في أخلاقها. كانت تقطن في ''دويرة '' محاذية لجامع بن فارس بالقصبة العليا بشارع كاتون رفقة أختها الكبرى المعروفة بنبل أخلاقها ورجاحة عقلها وسماحة أفعالها. في يوم من الأيام دخلت جارتهما عليهما تطلب منهما قليلا من الفحم الحجري لتوقد نارا فقامت الأخت الكبرى وناولتها ما تطلب، إلا أن تلك الجارة عاودت الكرة ثلاث مرات، فأخذ البنت فاطمة الفضول وذهبت وراء تلك السائلة إلى بيتها لمعرفة أسباب طلبها المتكرر على ذات المادة الفحم، ولما بلغت فاطمة ''دويرة'' جارتها التفتت إليها هذه الأخيرة وقالت ''أتريدين معرفة الدوافع الحقيقية وراء طلبي يا فاطمة، إنني اشتمت رائحة الأكل الذي تعدنه فانتهجت هذا السلوك عل وعسى أحظى بالقليل منه خاصة وأنا حامل، فوقع شيء في نفس فاطمة وعادت مسرعة إلى أختها تخبرها بما سمعت ورأت فقالت ''يا أختي أعطيها قليلا ممن نطبخ إنها مريضة وأخاف أن يصيبها مكروه هي وجنينها إن امتنعنا فعل ذلك''، فردت عليها أختها قائلة ''لن أفعل'' وكررت عليها السؤال أعطيها مما سآكله فرفضت مرة أخرى، وبعد مدة من التفاوض اهتدت فاطمة إلى حل وسط يرضي أختها وقالت ''يا أختي سأتنازل عن حصتي من هذا المنزل الذي ورثناه عن والدينا وسأستأجر غرفة من هذه ''الدويرة'' وأصبح بدل المالكة أجيرة، مقابل ذلك تمنحين الجارة المريضة طبق الأكل الذي اشتهته ''المتوم'' فقبلت الأخت الكبرى بذلك. فقامت فاطمة وأخذت ذلك الطبق إلى جارتها وعادت إلى غرفتها. وفي تلك الليلة حدث ما لم يكن في الحسبان، حين جنى الليل دخلت الفتاتان إلى غرفتيهما يستعدان للنوم، فجأة سمعت الأخت الكبرى حركة غير عادية في الغرفة التي تنام فيها أختها الصغرى فاطمة، ونهضت لتستطلع الأمر فوجدت أرجاء تلك الغرفة تشع نورا علما أن سكان القصبة في ذلك الوقت كانوا يستعملون قناديل للإنارة ونور هذه الأخيرة خافت، كما رأت ماء معطر بالبخور ينساب من تحت الباب فبهتت الأخت مما رأت وحاولت فتح الباب فوجدتها موصدة بإحكام، وقامت وذهبت إلى جيرانها الذين توافدوا بكثرة نحو منزل الفتاتين، ففتحوا الباب بسهولة تامة فوجدوا فاطمة ممدودة وسط الغرفة ملفوفة بإزار ناصع اللون يداها مخضبتان بالحناء ونصبت شمعتان على يمينها وشمالها، ومع بزوغ شمس النهار حاول جيرانها دفنها بمقبرة القطار بالعاصمة وبعد أخذ ورد قرر كبار القوم اتخاذ غرفتها مثواها الأخير، وقبرها مازال كما هو وفي ذات المكان بالقصبة، حيث تسكن مهملا خاصة بعدما انهارت تلك الدويرات المحاطة به.