لو لم أكن جزائرية لا أدري ما الذي كنت سأفعله من أجل أن أصبح كذلك .. لو تكن الجزائر موجودة لتقت لبلد مثلها .. ولامتطيت بساط أمل وطرت في رحلة بحث عن أراضيها وموقعها على سطح الكرة الأرضية . لو لم أكن جزائرية لما كنت أنا .. ولما كانت كتاباتي ..بيني وبين الجزائر بلدي علاقة لا تحتمل الوصف ..لا تطيق الكلمات .. جئتها شابة مفعمة بعشق عشش في كياني منذ أن كنت جنينا في بطن أمي .. تسكعت في شوارعها وجبت أحياءها وحاراتها قبل أن أراها .. عرفتها قبل أن أراها .. كنت أعلم أنها بانتظاري .. إنها تناديني .. جئتها وتضاعف تعلقي بها . وتفاقمت لهفتي وانبهاري بهذا الغموض الذي يلفها وهذا الصمت الذي يسكنها .. أحببتها أرضا وسماء.. عشبا وبحرا.. سحرتني روح المقاومة والأنفة المجبولة عليها.. إلتصقت بها حتى أصبحتها.. تلبسني وألبسها..اختلطت ملامحنا .. انطبع وجهها على وجهي .. فأشتاق لرؤيتها .. لتأمل ملامحها .. عندها أشتهي البعاد عنها .. التملص منها حتى أنعم بتفاصيلها التي تتبدى لي بكامل سحرها وروعتها وجمالها عن بعد .. أبتعد عنها حتى تهدأ تقاسيم منظرها في ذاكرتي ويتنحى وجهها عن وجهي .. فأتملى سحرها وضراوتها .. وأعيد ترتيب حقائقها وتعيد ترتيب حقائقي .. هي تعرف أني لا أتعامل معها بصيغة مجرد وطن قد نتبنى أي بقعة على وجه الأرض ونسميها وطننا.. إنها مصير وحقيقة تحسم وجودي.. تغذي أحلامي وهواجسي.. إنها شيء وجد لي ووجدت له.. شيء على توتره وأزماته وخيراته ومشاكله وفوضاه ومحنه لا مناص من حبه.. إنه نحن.. إنه كياننا الأصلي الصميم الثابت.. إنه التواصل والتفاعل الأرعن مع موجوداته وعمرانه وأشجاره وترابه وبحره وصحرائه يحيا فينا ونحيا فيه.. هو ذاتنا الباحثة عن ذاتها.. الجزائر نص أبهر باقتضابه وكثافته وغليانه الكرة الأرضية، أربكها جعلها تدور بطريقة أخرى.. أقول لنفسي كم يلزمني من عمر؟.. كم يلزمني من كتاب لألج كنه هذا البلد وأكتشق سر حزنه وصمته برغم زخمه وضجيجه .. الجزائر قدري الموجع وعقيدتي الكامنة في كلماتي وحركاتي وتفاصيلي ... هي حالتي الحلمية والنفسية والجسدية والانفعالية .. هي التي جعلت مني كيانا لغزيا .. كل من اعتنق الجزائرية لا يفلت من ذاك الشعور الغريب الذي يتولد من الألفة والتمازج مع نظام الغليان والفوضى وفورة الحياة والأسئلة المتجددة و''الجمالية المقلقة'' وليسمح لي فرويد باستعارة هذه العبارة.. طلب مني كاتب عربي التقيته في إحدى الملتقيات الأدبية أن أعيره جزائريتي باضطرابها وتوترها وقلقها وبحثها الأزلي عن ذاك الشيء المستعصي عن التسمية قال لي '' كم أنا بحاجة لهكذا اضطراب لهكذا توتر وغليان نفسي وفكري أشحن به كتاباتي وأغذي به أفكاري وأسئلتي .. محدثي ذهب حد تمنيه لو أقرضه العيش لمدة شهور في الجزائر حتى ينهل من حراكها الاجتماعي وزخمها التاريخي والجغرافي والحضاري .. ولكن أغلبنا نحن الغاطسين فيما يتمناه الغير غير مدرك لما يدرك الغير، ولا مقدر لما يقدره من وفير ميزات تتمتع بها الجزائر يعلمها من ليس جزائريا أكثر منا.