... وهكذا، و في غياب مؤسسات وهيئات وطنية متخصصة تدرس وتحلل وتستشرف آفاق ومستقبل المجتمع في كل مجالاته وأطوار نموه وكذا، تفاعلاته مع محيطه الداخلي والخارجي.. في هذا الغياب المخل والمزمن، تصدر عنا ردود أفعال متأخرة في الزمان والمكان ومتسرعة أو متشنجة تعوزها الحجة ويخونها البرهان. ذلك، ما نعيشه عبر وسائل الإعلام بكل أنواعها وتوجهاتها، فيما صار يسمى ''تجريم الاستعمار'' بعد أن أقدم البرلمان الفرنسي منذ سنوات خمس، على إصدار قانون 23 فيفري .2005 يمجد فيه الاستعمار من خلال اعتراف الأمة الفرنسية بمساهمة المهجرين من شمال إفريقيا والهند الصينية وخاصة في مادته الثانية، حيث يتهم الجزائر صراحة، بارتكابها عمليات قتل ومذابح في حق ''عملاء'' فرنسا قبل وبعد اتفاقية إيفيان في 19مارس.1962 وفي مرحلة عملية، لتطبيق وتنفيذ هذا القانون الاستفزازي والمعاكس لإرادة أهل الاختصاص ومبادئ الجمهورية الفرنسية نفسها ( ولا نقول خرقا لاتفاقية إيفيان) يأتي تصريح كاتب الدولة الفرنسية للدفاع في 25 سبتمبر ,2009 متضمنا إنشاء ''مؤسسة ذاكرة الحرب'' لفائدة الفئات المذكورة أعلاه وبمساهمة من الدولة نفسها، وهذا تطبيقا للمادة الثالثة من القانون السالف الذكر، كعربون وفاء وتقدير يذكر هؤلاء المغرر بهم دوما، بماضيهم التليد الحافل بالبطولات والأمجاد !! وكرد على هذا القانون الاستفزازي، تسعى مجموعة من نواب المجلس الوطني الشعبي لتمرير قانون يجرم الاستعمار الفرنسي خلال فترة وجوده بالجزائر. لكن هذا المسعى وبالرغم من شرعيته، تعترضه عدة عقبات تتمثل من جهة، في صمت وإحجام السلطات الجزائرية الرسمية عن الخوض في ملابساته. ومن جهة أخرى، تخاذل وتقاعس فئات وأطراف من المجلس نفسه والمجتمع المدني بصفة عامة. وفي الأخير، غياب المرجعية القانونية (؟) التي تسمح بتجسيد هذا المسعى وإجبار السلطات الفرنسية على الاعتذار للشعب الجزائري وإصلاح ما أفسده الوجود الاستعماري المدمر في كل الميادين وحتى... تصفية الديون المعترف بها بموجب القانون الفرنسي الصادر في24-12 - 1820 المتضمن تسوية ديون فرنسا نحو الجزائر، حيث تمثل مؤسسة بكري وسيطا تجاريا في هذه العملية !! .1 تجريم الاستعمار و اتفاقية إيفيان 1-1. في الشكل: كما هو معلوم فإن اتفاقية إيفيان كانت نتيجة اتصالات سرية وعلنية منذ .1956 توجت بمفاوضات مباشرة وعلى مرحلتين اثنتين: إيفيان الأولى 10-19 / 2 / 1962 و إيفيان الثانية: 07-18 / 3 / 1962. وهذا بناء على توصيات الأممالمتحدة في دوراتها .15 ,14 ,13 ,12 ,11 ,10 وخاصة الدورة ''''16 (جلسة 20 / 9 / 1961) حيث طلبت من الطرفين إجراء مفاوضات رسمية ومباشرة. دون أن تحدد وسيطا أو مشرفا أمميا على المفاوضات يضمن تطبيقها وحل النزاعات الطارئة. ذلك أن الوسيط السويسري أوليفيي لونغ بالرغم من صفته الدبلوماسية والتفويض من دولته، إلا أنه لم يشارك بصفة فعلية ومباشرة في الجلسات ولم يوقع الاتفاقية ووساطته (اتصال وتنسيق) كانت مبادرة من الطيب بولحروف، ممثل جبهة التحرير الوطني في إيطاليا. والاتفاقية كما هو ظاهر من تسميتها، بروتوكول تفاهم بين الطرفين الجزائري والفرنسي. ولم يذكر في حيثياته، أي مرجع قانوني دولي باستثناء نتائج استفتاء 08 جانفي 1961 ''التي اعترف فيها الشعب الفرنسي للجزائريين بحقهم في اختيار مصيرهم السياسي إزاء الجمهورية الفرنسية، عن طريق الاقتراع العام والمباشر''. وكذا، ''محكمة العدل الدولية'' في حالة نشوب خلاف لم يتسن للطرفين تسويته بالطرق السلمية أو الصلح. وهذا، بخلاف اتفاقية توقيف القتال المبرمة مابين الفيتنام والولايات المتحدةالأمريكية في 27 جانفي 1973 بباريس. حيث أشرف على مراقبة تنفيذها كل من كندا، المجر، أندونيسيا وبولونيا. وأكثر من هذا، حررت الاتفاقية باللغتين: الفيتنامية والانجليزية !! وعليه، فإن الوثيقة كما يؤكد كثير من المختصين في فقه القانون الدولي، لا تكتسي طابعا قانونيا بحتا (Juridique) بل، سياسيا ظرفيا. الهدف منها تسوية قضية سياسية محددة في الزمان والمكان. وبذلك، انتهت صلاحيتها في أقصى الآجال المحددة لتنفيذ بعض بنودها. خاصة، البند المتعلق بالاستغلال - التأجيري لقاعدة المرسى الكبير البحرية والمحدد بخمسة عشرة (15) سنة ابتداء من تاريخ تقرير المصير، أي في 03 جويلية .1962 قابلة للتجديد. إلا أن هذا لم يحدث. حيث تم إخلاؤها نهائيا، في سنة 1968 بدلا من .1977 وفي الأخير لم تخضع الاتفاقية حسب علمي، لا للتجديد ولا للتمديد ناهيك عن التصديق (Ratification) من طرف الدولتين كوثيقة رسمية مرجعية، ممهورة بالختم والصفة الدستورية للبلدين وإشهارها عبر الهيئات والوثائق الرسمية !! 1-2. في المضمون: يدعي بعض الانهزاميين أو بالأحرى المنتفعين القدامى منهم والجدد، من حنان وسخاء ''فافا' أن اتفاقية إيفيان لا تسمح بتجريم فرنسا، لأن بعض بنودها ينص كما أن هذا المسعى سيلحق الأذى المادي والمعنوي بجاليتنا المقيمة هناك (!). والحقيقة أن الاتفاقية وباستثناء النص الوارد في الفصل الثاني، الفقرة ا/.1 المتعلقة باستقلال الجزائر وسيادتها الشاملة والكاملة في الداخل والخارج، فإن بقية بنودها الجوهرية نموذج صارخ لكل أنواع الإكراه والاستغلال والتعسف باسم ''حقوق الإنسان'' و''ديمقراطية'' فرنسا خاصة عندما يتعلق الأمر بتطبيقهما على غير الفرنسيين. ولذلك اعتبرها أولئك الذين رفضوا المصادقة عليها (وهم أربعة: هواري بومدين، علي منجلي، احمد قايد، مختار بوعيزم) إبان انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية في 22-27 / 2 / 1962 بطرابلس، ضربا من ''الاستعمار الجديد'' خرج من النافذة ليعود من الباب. أو تنفيذا لما صرح به دوغول في جانفي 1960: لن يكون الحل إلا فرنسيا !! وخلاصة القول، أن اتفاقية إيفيان قد تجاوزتها الأحداث. فهي لاغية (Caduques) بالإضافة إلى عدم الالتزام بها من طرف فرنسا وخرقها (مع التحفظ في استعمال هذه العبارة) بصفة رسمية في سنها لقانون ''تمجيد الاستعمار'' وتوابعه. ثم الادعاء بأن الأبناء لا يعتذرون عما ارتكبه الآباء من أخطاء (تصريح الرئيس ساركوزي) وهو كلام صحيح وحكيم، لو أنه تعلق بحالة شخصية تخص أفراد أسرة معينة. لكنه يصير متناقضا وغير مسؤول حيث يتعلق الأمر بدولة قائمة يحكمها مبدأ ''استمرارية المرفق العمومي'' منذ إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في العام 1792 (أنظر مبادئ لويس رولان) وهو شرط لم يتوفر آنذاك، لا في جبهة التحرير الوطني ولا في الحكومة المؤقتة بسبب السيادة المنقوصة من حيث انعدام المؤسسات اللازمة لقيام الدولة. فالمسعى الجزائري يطالب بتجريم نظام سياسي- عسكري (وليس أفرادا مدنيين كما يفهم من اتفاقية إيفيان) هذا النظام الذي اقترف على مدى 132 سنة، جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تمثلت في تلك الإبادات الجماعية للعنصر البشري (08 مجازر) وجرائم معنوية (05 قوانين) استهدفت سلب الجزائريين حرياتهم الفردية وهويتهم اللغوية والدينية وفي الأخير، جرائم مادية - معنوية (07 قوانين) نزعت الأملاك وصادرتها ونفت أصحابها الشرعيين. ومطلب التجريم هذا، منسجم تماما، مع ما أقرته محكمة العقوبات الدولية (TPI) ومجلس العقوبات الدولي (CPI). غير أن هذا الأخير يشترط لقبول أية دعوى في هذا المجال، أن تكون الدولة المعنية قد وقعت وصادقت (Ratification) على اتفاقية روما، وهو ما لم تقم به الدولة الجزائرية حسب ما صرح به الأستاذ ميلود إبراهيمي (الوطن: 17 / 3 / 2010 ). .2 تجريم الاستعمار والقوانين الدولية من بين العوائق التي يصادفها مسعى تجريم الاستعمار، التعقيدات الإجرائية التي تضعها القوانين الدولية أمام حالة كحالة الجزائر، حيث عمل المشرعون الذين ينتمي أغلبهم إلى القوى الاستعمارية القديمة، إلى وضع ميكانيزمات تشريعية تَحْرُم الدول الفتية والمستقلة حديثا من المطالبة بالتعويض أو التجريم والاعتذار بالإضافة إلى ذلك، تطبيق سياسة الكيل بمكيالين كما هو الحال مع قضية ألمانيا واليهود خلال الحرب العالمية الثانية التي استنفرت ما يمسى بالعالم الحر وفي المقابل، تكريس كل أنواع الظلم والعدوان على الشعب الفلسطيني في مواجهته لغطرسة الكيان الإسرائيلي. إلا أن هذا لا يمنعنا من تكييف قوانيننا مع قوانين الشرعية الدولية التي يتبجح بها هؤلاء في تحد واستخفاف هدفهما استمرار الهيمنة والابتزاز. إن استصدار قانون أو قوانين تجرم الاستعمار الفرنسي كنظام وليس كأشخاص، ليست مهمة سهلة تُختَزل في وثيقة سيئة التحضير من حيث البرهنة والتدليل المادي للأفعال المراد إدراجها ومن ثمة تجريمها، ثم تبعث هذه الوثيقة ميتة، في حوليات الجمهورية الجزائرية. فحالة الحصار المضروب على أرشيف تاريخنا القديم والحديث، تشكل عقبة كأداء في طريق تحقيق هذا المطلب. إلا أنه بالإمكان بعد فشل المساعي الودية الثنائية، اللجوء بصفة رسمية، إلى التحكيم الدولي لدى الهيئات الأممية المختصة والمؤسسات الجهوية لاستصدار قوانين ملزمة تجبر فرنسا وكل الدول الاستعمارية القديمة على تسليم مستعمراتها، أرشيفها دون شرط أو قيد. وفي رأينا المتواضع، أن تجسيد هذه الرغبة، سلوك حضاري يساعد على نشر ثقافة السلم والتعاون الايجابي بين الشعوب والأمم والقضاء على كثير من بؤر التوتر والتلاحي التي ما فتئت تؤرق ضمير الإنسانية وتؤجج سعير الحروب والفتن فتؤجل بذلك، خلاص كثير من المستضعفين !! هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن العمل الدبلوماسي وتفعيل ''مبدأ المعاملة بالمثل'' وتوظيف الأوراق الرابحة (وما أكثرها) في مجالات الاقتصاد والتعاون الثنائي في شتى المجالات دون إفراط أو تفريط، حركية من شأنها تقريب وجهات النظر وإزالة الحواجز الحقيقية والمصطنعة. ثم لا ننسى دور المجتمع المدني من أحزاب (إن هي أصغت لنداء الوطن وشرف الأمة ؟!) وجمعيات ومراكز بحث وأكاديميات وشخصيات علمية وسياسية وتاريخية، في تنشيط وتفعيل هذه الحركية وإكسابها المصداقية خارج الهيئات الحكومية الرسمية المثقلة بترسبات التحفظ واهتبال الفرص التي قد لا تأتي أبدا. ذلك، أنه مطلب مشروع يصب مباشرة في خانة الوعي الجمعي للأمة كما أنه في نفس الوقت، توظيف ايجابي لقيم المواطنة المتشبعة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يؤمن بها العالم الغربي نفسه. هذا العالم الذي كثيرا ما ازدرى عقولنا وسفه أحلامنا بدعوى قصورنا وتخلينا أو تنازلنا عن حقوقنا المشروعة وعدم استعدادنا بل، عجزنا السرمدي عن إثبات وجودنا كشرط أساسي وحاسم لقبول السجال والمواجهة الجديرين بالتقدير والاحترام ولنا في ذلك، أسوة حسنة ومثل يحتذى في ثورتنا المظفرة ورجالاتها الأفذاذ، الذين ضربوا أروع الأمثلة في الجلد ومقارعة ندية لجنرالات فرنسا وساستها المحنكين. هذا، ولا يغيب عن أذهاننا أن ''تجربة القانون الدولي كما هي ممارسة اليوم، أثبتت أن محاكمة سياسة بعض الحكومات والمسؤولين المتورطين في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية حديثة العهد، أسهل من محاكمة التاريخ الاستعماري، باعتبار أن الدول الاستعمارية بالأمس، هي نفسها التي تصنع وتنفذ القانون الدولي اليوم. لكن هذا لا ينبغي أن يثبط من عزيمة الدول المستعمرة قديما لخوض - بكل إصرار وثبات وتضامن - معركة الذاكرة. هذه المعركة التي تبدو أكثر قسوة وشراسة من معركة استعادة السيادة والاستقلال'' إن مستعمرات فرنسا القديمة في إفريقيا وفي الهند الصينية على وجه التحديد مدعوة كما فعلت بالأمس في إطار مجموعة الأفرو- آسيوية، إلى توحيد جهودها من أجل انتزاع اعتذار صريح ومشرف من فرنسا الاستعمارية وهذا في إطار مبدأ عدم التقادم (imprescriptibilité) جريمة الحرب والجريمة المرتكبة ضد الإنسانية المنصوص عليها في قرار الأممالمتحدة رقم 2391 الصادر بتاريخ ..1968 11 26 وأخيرا مهما عز الطلب وتمنع المطلوب فإنه لن يضيع حق وراءه طالب.!