يتردد منذ أكثر من عشرية لدى الأوساط السياسية ومن دار في فلكها، مبدأ أو مفهوم ''الحكم الراشد'' كأداة أو مقاربة اقتصادية سياسية تتسم بعقلانية القرار المؤسس على مؤشرات وتقييمات موضوعية ومحددة في الزمان والمكان، وفي المقابل، استبعاد تلك الإجراءات والقرارات ذات الطابع الارتجالي أو الاعتباطي الظرفي، حيث تتخذ هذه القرارات المصيرية بصورة متسرعة وعشوائية أحيانا، لمعالجة طارئ أو حادث يومي في حياة الأفراد والمؤسسات. و''الحكم الراشد'' هو أحد أهم مبادئ التنمية المستدامة في عصرنا الحاضر، وهو كذلك من مميزات الثقافة العربية الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين الأربعة أو الخمسة !! وحيث أن التنمية المستدامة كأنموذج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى ضمان ديمومة التراث الطبيعي للأرض وفي خدمة الإنسانية قاطبة، فهي المحك الحقيقي والاختبار الحاسم لمبدأ الحكم الراشد. لذا، يجدر بنا ومن باب تعميم الفائدة ولو من الناحية النظرية، ذكر أهم مبادئ التنمية سواء في إطارها المحلي أو الدولي، فهي مبادئ عامة يهدف تطبيقها إلى حماية الإنسان من حيث محيطه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وكذا، محيطه الطبيعي والايكولوجي بغض النظر عن مكان تواجده فوق سطح الأرض. وتتلخص هذه المبادئ فيما يلي : .1 التسيير المندمج: وهو التسيير الشامل الذي يأخذ بعين الاعتبار كل العلاقات المشتركة والمتداخلة والتي تتضمنها نظم ومناهج العمل. ويتمثل هذا في تبني إجراءات أفقية متعددة أو بالأحرى قطاعية، متعددة الأطراف والتخصصات. .2 طريقة الحكم: تقتضي مقاربات عقلانية في اتخاذ القرار، مؤسسة على مؤشرات وتقييمات مسبقة (إحصائيات). .3 المدى البعيد: وهو تلك الأفكار التي يجب أن تصاحب الأعمال والمشاريع لأجل يتعدى مدة الأربع أو الخمس سنوات، دون الحاجة إلى مراجعة شاملة أو جزئية. .4 الحذر أو الحيطة: ويتميز هذا المبدأ بالإبقاء على عدد معين ومفتوح من الإمكانات والخيارات يلجأ إليها في حالة ظهور شكوك وعدم تيقن. .5 الوقاية: وتتمثل في تلك الخيارات من الحلول والتي من شأنها تقليص والى أقصى حد، الآثار المترتبة. وهذا لتقليل عمليات التصحيح على المشاريع بعد انجازها واستغلالها. .6 المسؤولية: وهي التزام شامل ومعمم، يهدف إلى فرض المسؤولية الفردية والمحلية، ويرمي كذلك، إلى مبدأ ''الملوث-الضامن، والذي ينص على أن المتسببين في التلوث هم الذين يتحملون النفقات. وهو المبدأ الذي ترفض الولاياتالمتحدةالأمريكية تطبيقه، بالرغم من أنها أكبر ملوث في العالم. .7 السلطات المقلصة أو المحدودة: وهو مبدأ عمل على مستوى القرار الأكثر ملاءمة لضمان نجاعة المصلحة العامة. ويتم هذا عن طريق تقليص تعدد مصادر القرار أو توحيدها لكسب الوقت والمصداقية. .8 التضامن: ويتمحور حول فكرة الاعتراف بالمصلحة المشتركة لدى الأفراد والمؤسسات والدول.. الخ. حيث يقتضي لدى البعض، التحلي بالواجب الأخلاقي في عدم الإضرار بالآخرين وضرورة تقديم المساعدة لهم. إذن، وبعد الاستعراض الموجز لمبادئ التنمية المستدامة في ظل الحكم الراشد، نتساءل عن مدى تطبيقها في واقعنا المعيش محليا، ووطنيا؟ إن الإجابة الموضوعية على هذا التساؤل، ستؤدي بنا حتما، إلى استقراء مظاهر تكفل السلطات العمومية بالمواطن في جميع الأطوار والحالات من جهة، والمساهمة الفعلية لهذا المواطن في ''صناعة'' الثروة الوطنية كمقياس حاسم، والاستفادة منها من جهة أخرى. وهذا في سياق ما يعرف بالحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية في ابسط مفاهيمها. والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الواقع الراهن لا يعكس بصورة واضحة وجدية ( بالرغم من بروز بعض الإرهاصات والدلائل الايجابية في مجالي السكن والطرقات ) سيادة المبدأين السالفي الذكر. وهذا في غياب أو إهمال مبادئ الحكم الراشد خاصة على مستوى التنفيذ الأفقي المحلي لسياسة التنمية المستدامة. يظهر هذا خاصة في الأزمات والكوارث الطبيعية والأزمات الاجتماعية والوبائية الصحية التي تلم بالبلاد. حيث نلاحظ سلبيات فادحة تزيد في معاناة المصابين وقد تؤدي إلى مضاعفات أكثر وقعا من الضرر الأساسي نفسه. بيد أن هذه الإفرازات السلبية ليست نتيجة نقص الإمكانات أو انعدامها بل في طريقة وميكانيزمات تسييرها وتكييفها مع الواقع. ففي غياب برنامج أو مخطط لتنظيم وتأطير عمليات الإغاثة والمساعدة المتعددة المجالات (ORSEC) المؤسس على معطيات ومؤشرات ميدانية آنية أو سابقة، فإن كل الاحتمالات واردة وسيصعب التحكم في الوضع والسيطرة على كل أنواع التسربات والانحرافات أو النوايا المبيتة. وهنا سيختلط الحابل بالنابل، فتطفو فئة المغامرين من ''السياسوين'' وأثرياء الحروب والكوارث، أولئك المزايدون على مآسي الضحايا والمنكوبين. خاصة إذا أوسد الأمر إلى غير أهله، سواء من حيث الاختصاص الموضوعي أو الإقليمي. وهو ما يحدث مع الأسف، بدعوى الحياد والنزاهة في القرار أو بفعل استمرار سيادة الذهنية الأبوية التي لا تعترف بسن الرشد إطلاقا. ولا ينبغي أن يفهم من هذا، الاستغناء عن مساهمة الأفراد أو تنظيمات المجتمع المدني. فالهبة الشعبية التي قام بها مواطنو بلدية ونوغة خاصة، نحو إخوانهم في بني يلمان إثر زلزال 14 - 05 - 2010 أبلغ صور التعبير عن التضامن والتكافل. ولولا هذه الإغاثة الفورية والعفوية في آن واحد، لهلك الكثير من المصابين. لقد سبق لي أن كتبت على صفحات ''يومية الحوار'' المتألقة في إطار مشروع تجريم الاستعمار ما يلي: (( ... وهكذا، و في غياب مؤسسات وهيئات وطنية متخصصة تدرس وتحلل وتستشرف آفاق ومستقبل المجتمع في كل مجالاته وأطوار نموه وكذا، تفاعلاته مع محيطه الداخلي والخارجي.. في هذا الغياب المخل والمزمن، تصدر عنا ردود أفعال متأخرة في الزمان والمكان ومتسرعة أو متشنجة تعوزها الحجة ويخونها البرهان )) أنظر الحوار: 10 - 2010 04 وهو نقص أعتقد آن التعديل الحكومي قد أخذه بعين الاعتبار، فخصص له وزارة قائمة بذاتها. وسيكون لهذه الوزارة شان كبير إن هي عممت مصالحها على مستوى كل ولايات الوطن وتخلت عن روتين الإدارة وعمل المكاتب المكيفة، فساح إطاراتها ومهندسوها وتقنيوها في الأرض يستقون المعلومة من مصدرها ويرصدون الظاهرة في موقعها ويستشرفون المستقبل ويقترحون الحلول العاجلة والآجلة دون إفراط أو تفريط. إن الاستشراف من مبادئ ديننا الراسخة ولا تعارض فيه مع علم الغيب الإلهي ( سورة يوسف الآية 55 ) وفي هذا السياق، فان الضرورة ملحة لإجراء مسح كمي ونوعي لإمكانات وتجهيزات وأدوات التدخلات الأولية، التي تملكها كل مؤسسة عامة كانت أو خاصة، مع ضرورة تحيينها وتدعيمهما بصفة دورية وإجبارية. كما يجب توفر كل بلدية على خلية أزمة دائمة، تتوفر على تجهيزات الإغاثة اللازمة حسب موقعها من خارطة بؤر الكوارث الطبيعية (إن وجدت) دون أن يهمل جانب التكوين ورسكلة الأشخاص المعنيين (إضافة إلى هيئة الحماية المدنية والجيش الوطني الشعبي والكشافة .. الخ.) وخضوعهم لتكوين متخصص في الداخل والخارج وإجراء مناورات افتراضية محكمة التأطير والتنفيذ تراعي كمرحلة أولى، طبيعة الكارثة وخصوصية المنطقة من حيث المناخ والتضاريس والتقاليد والعرف السائد في عمليات الإيواء (!) وضمان أمن الأشخاص والممتلكات والتموين بالمواد الغذائية الأساسية وإنشاء خلية إعلام واتصال لفائدة المنكوبين وذويهم إلى غير ذلك من الوسائل والمرافق التربوية والصحية التي تساهم في التكفل النفسي والاجتماعي بالمتضررين ماديا ومعنويا، تكفل لهم استمرار الحياة. ويجرنا الحديث إلى ضرورة إعادة النظر في مقاييس عناصر الإحصاء والتعداد السكاني المعتمدة حاليا وكذا، الدورة الزمنية التي نراها بطيئة ولا تتلاءم مع تسارع الأحداث وتطور مؤشرات نمو المجتمع الجزائري، كما ونوعا. هذا، وجدير بالتذكير، أنه قد آن الأوان لتوظيف العلم والتكنولوجيا وترشيد استعمال نتائجهما في حياة المواطن وفي كل المجالات والمستويات (المدرسة، المسجد، الجامعة) بغية تعميم ثقافة النوازل بكل أنواعها، والتعاطي مع الأحداث والحالات. إن حالات التسيب والإهمال وغياب روح المبادرة لدى بعض الهيئات العمومية الفاعلة، هي أسوأ مظاهر تفاقم إفرازات الكوارث الطبيعية والآفات الاجتماعية والتي ما فتئت تؤجل وتعطل الانطلاقة الحقيقية لتنمية شاملة ومستدامة. فشعب يقبع في خانة ''الكم المهمل'' شعب غير جدير بالحياة أما حكامه فإن التاريخ كفيل بتصنيفهم في سلم القيم والهمم. فمبدأ ''الراعي والرعية'' كما ورد في الحديث الشريف، هو المعنى الحقيقي لمفهوم الحكم الراشد والتوظيف العملي لمبادئ التنمية المستدامة كما حددها وقننها العلماء والساسة المعاصرون في ستوكهولم (السويد- 1972) وتقرير ''بروندلاند (الأممالمتحدة -1987) ومؤتمر ريو دوجانييرو (البرازيل- 1992) و مؤتمر المدن الدائمة (الدانمرك 1994) ومؤتمر كيوتو (اليابان-1997) مؤتمر بوينس إيرس (الأرجنتين 1998) وفي الأخير، القمة العالمية المنعقدة بجنوب إفريقيا سنة .2002 وأخلص في هذه العجالة المتواضعة، مشيرا إلى ما أقره علماء الجيولوجيا والزلازل في ما يتعلق بدور المعادن الباطنية خاصة الغازية والسائلة منها، في تفعيل حركية طبقات الأرض الهشة ومساهمتها في حدوث زلازل عمودية ذات التأثيرات البركانية المدمرة. وهو ما يدعو السلطات العمومية إلى إعادة إجراء مسح جيولوجي معمق على مستوى الوطن عامة والمناطق الزلزالية أو ما يسمى ''حزام النار'' ومن ثمة، الشروع في التنقيب واستغلال هذه المناجم (GISEMENTS) لتقليص آثارها المدمرة و تنشيط التنمية الاقتصادية المحلية. هذا، وفي ظل سياسة ''الحكم الراشد'' تجب إعادة النظر عمليا وعلى كل المستويات ودواليب الدولة الجزائرية، في بعض السلوكيات الطفيلية والمريضة التي ما فتئت تقزم دور المواطن في تثمين قيم المواطنة الايجابية وإتاحة الفرصة لكل القوى الحية في البلاد من أجل المساهمة الفعالة في البناء دون إقصاء أو تهميش أو تحزب أو ذهنية جهوية أو زبائنية، وليكن شعارنا ''الجدارة والجدية والجدوى'' وحب الجزائر المقترن أساسا، بالوفاء لدماء الشهداء وقرون من التضحية ونكران الذات. إن رصيدنا التاريخي الحافل بالبطولات والأمجاد - إن نحن استثمرناه بحكمة وسداد كفيل بدفعنا إلى المعالي وأسمى الدرجات. يقول المثل الانجليزي ''إن الجيش لا يصنعه الرتباء'' وقياسا عليه نقول بدورنا، إن الوزارات لا تصنع حكومة والحكومة لا تصنع حكما أو دولة، ناهيك عن أمة أو شعب كالشعب الجزائري الرافض بفطرته، لكل صروف التدجين والتهجين من يوغرطة الى التسعة الأولين* !! * هم التسعة، مفجرو ثورة أول نوفمبر 1954: محمد بوضياف، محمد العربي بن المهيدي، مصطفى بن بولعيد، مراد ديدوش، بلقاسم كريم، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد، محمد خيضر ( الترتيب عشوائي)