مع احتدام اللغط حول المستقبل السياسي في مصر طفا إلى السطح واقع اقتصادي متدهور لبلد هو الأضخم في المنطقة، ويمتلك إمكانيات بشرية جبارة قادرة على ركوب المستحيل وتحقيق حياة أفضل لملايين المصريين ممن غالبيتهم مسحوقة تحت خط الفقر. وفي حين تؤكد المعارضة أن البلاد في هاوية تدافع الحكومة بشراسة عن سياساتها وتؤكد أنها تحقق نموا مطردا، إلا أن ذلك النمو يراه المراقبون الاقتصاديون لا يحدث إلا في جيوب الأغنياء في حين يظل نحو 90 بالمئة من المصريين يعانون من شظف العيش ويبحثون عن الأرغفة، وبعضهم لا يجدها مثلما حصل في أكثر من مناسبة هذا الشهر في القاهرة ومحافظات ''أم الدنيا'' الأخرى، ويؤكد المتابعون أن الأزمة الاجتماعية والسياسية التي طفت إلى السطح في مصر ليست وليدة طوارئ خارجية أو حوادث مفاجئة حصلت في الداخل، وإنما الأزمة نمت لعدة أسباب .. على بعد حوالي عام من الآن مصر تكون على موعد مع انتخابات الرئاسة، وهي انتخابات متوقّع أن يتمّ إجراءها في مصر خلال عام 2011 في شهر سبتمبر. وتعتبر ثاني انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ مصر، وما يميز هذه الانتخابات هو احتمال عدم ترشيح مبارك لنفسه رغم أن الحرب المؤتمر الوطني الحاكم أكد بأن مرشح الحزب ، مما يفتح الباب لطرح عدة أسماء قد ترشح نفسها أو يرشحها الناس محمد البرادعي المدير الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وهو حاصل على جائزة نوبل للسلام سنة 2005 وعمرو موسى وجمال مبارك الابن الأصغر للرئيس المصري حسني مبارك) وغيرهم لتولي منصب رئيس مصر وسط رفض من قبل الإخوان المسلمون خوض الانتخابات الرئاسية المصرية حتى لو حصلوا على الشروط القانونية،. نظام مبارك حاول إصلاح خطأ السادات فرهن مصر للخارج يؤكد المتابعون أن الأزمة الاجتماعية والسياسية التي طفت إلى السطح في مصر ليست وليدة طوارئ خارجية أو حوادث مفاجئة حصلت في الداخل، وإنما الأزمة نمت لعدة أسباب منها هيكلة الاقتصاد ذاته، لا سيما في ضوء معاهدة كامب ديفيد المشؤومة، وما كرسته من تبعية للاقتصادي المصري للخارج، إضافة إلى أن استشراء الفساد وظهور طبقة من الأغنياء تستفيد من هذه البيئة الاقتصادية التي وجدت مصر نفسها بداخلها، وهي الآن أصبحت تحاول الخلاص منها، لكن ذلك لن يكون سهلا إذ يتطلب الخلاص إعادة النظر في الدورة الاقتصادية وتفاصيلها ومواجهة استماتة الحكومة في الدفاع عن خياراتها.فعندما وقعت الأزمة المالية العالمية العام الماضي، اندفع المسؤولون في مصر إلى طمأنة لمستثمرين المحليين والأجانب إلى أن النظام المالي المحلي سوف يكون في مأمن من آثارها.ولم يكن هناك تعامل في الأصول عالية المخاطر التي تسببت في الأزمة التي أغرقت البنوك في متاعب، وكان النظام المالي يتمتع بوفرة في السيولة، ويدار بحكمة. ومع ذلك، اكتنف الغموض الوضع على مستوى الاقتصاد الحقيقي، حيث تسارع النمو ليصل معدله إلى سبعة في المائة، في الفترة من 2006 حتى ,2008 معتمدا بشكل كبير على الطلب الخارجي ومصادر التمويل الخارجية. وكان من المتوقع في العام الماضى أن تتراجع عائدات قناة السويس، والصادرات، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج. ومع ذلك، فإنه على الرغم من توقعات سوء الأداء، حقق الاقتصاد نموا بنسبة 4.7 في المائة خلال السنة المالية المنتهية في جوان وهو رقم يقول محللون إنه يمكن إرجاعه بدرجة كبيرة إلى مرونة الطلب المحلي، وعوائد السياحة التي جاءت أفضل من المتوقع. ومن المتوقع أن يصل نمو الاقتصاد هذا العام إلى 5.1 فى المائة. وفي هذا السياق يقول الخبراء ربما كان الاقتصاد متماسكًا خلال الأزمة، ولكن مصر تحتاج نموًا مستدامًا، بمعدلات أكبر لانتشال 40 في المائة من السكان من الفقر، وتقليل مستوى البطالة عن معدل 9.6 في المائة العام الحالي. وكان وزير التجارة والصناعة رشيد محمد رشيد قد أشار في وقت سابق إلى إن الحكومة لا تتوقع حدوث أى انخفاض فى معدل البطالة خلال هذا العام، خصوصا مع دخول نحو 650 ألف شخص جديد لسوق العمل سنويا. وتعيش مصر على وقع مطالبات بالتغيير تقودها المعارضة التي تقول إن معدلات البطالة والفقر في ارتفاع كبير، لا سيما في أوساط الشباب، وتنتقد بشدة التقارير التي تنشرها الحكومة وتعتبرها مجرد مساحيق لتجميل وجه النظام. مسار التنمية يستجيب للشروط الدولية أكثر من استحقاقات الداخل في عام 1989 صاغ الإقتصادي جون ويليمسون نائب رئيس البنك الدولي ما عرف ب''توافق واشنطن''، وهو مجموعة السياسات والتوصيات والمبادئ التوجيهية التي تم التوصل إليها بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومة الولاياتالمتحدة، ومقر هذه الأطراف الثلاثة العاصمة الأمريكيةواشنطن .ويحتوي هذا ''التوافق'' على مجموعة من الإتفاقات غير الرسمية ''إتفاقات جنتلمان''، عقدت طيلة الثمانينات والتسعينات بين الشركات الرئيسية العابرة للقارات وبنوك وول ستريت، وبنك الإحتياطي الإتحادي الأمريكي والمنظمات المالية الدولية ''البنك الدولي صندوق النقد الدولي. قد صاغ جون ويليمسون ''التوافق'' ومبادئه الأساسية بزعم أنها تطبق على أي فترة تاريخية، وأي إقتصاد، وأي قارة، وبإستهداف التوصل بأسرع ما يمكن إلى تصفية أي هيئة أو تنظيم من جانب الدولة، والتحرير الأكمل بأسرع ما يمكن لكل الأسواق ''الثروات، رؤوس الأموال، الخدمات، البراءات''، وفي النهاية إقامة حكم كوني بلا دولة، وسوق عالمية موحدة ومنظمة ذاتياً تماماً، وهذه هي المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها.وهذا المشروع تروج له المنظمات الدولية ''صندوق النقد الدولي والبنك الدولي'' والشركات دولية النشاط والمستثمرين الأجانب على أنه سيمكن بلاد العالم الثالث من التغلب على إختلالاتها الهيكلية والقيود التي تعوق النمو الإقتصادي وعلاج مشكلات الفقر والبطالة.ويعتمد هذا المشروع، في خطابه الإعلامي والأيديولوجي، على الليبرالية المطلقة التي ترتكز على إضعاف قوة الدولة وإبعادها عن التدخل في النشاط الإقتصادي، والإعتماد على آليات السوق والمراهنة على الدور '' القائد '' الذي سيلعبه القطاع الخاص ''مع تصفية القطاع العام'' والإنفتاح بقوة على الإقتصاد الرأسمالي العالمي. ونستطيع القول واستنتاجا من كل ما سبق أن التحولات العالمية المختلفة أثرت على واقع التنمية والتخطيط في جميع البلدان المتخلفة ومنها مصر، ولا شك في أن مستقبلها سيتأثر بها، خصوصا وأن هذه التحولات مسّت حتى المنظور التنموي، الذي تحول من الحيز الوطني الخاص بكل بلد إلى الإطار الدولي الذي يتحتم الآن أن تتم ضمنه ممارسة أي عمل تنموي؛ فمن المعروف تاريخيا أنه خلال الفترة''1952- ''1974 تحولت مصر إلى الاقتصاد الاشتراكي، بما تضمنه ذلك من تأميم الكثير من شركات القطاع الصناعي وتحولها من مرحلة اقتصاد السوق وملكية القطاع الخاص، التي كانت قبل ثورة1952 إلى مرحلة ملكية الدولة والقطاع العام وتوجيه الاقتصاد وقيام الدولة بتطبيق إستراتجية الإحلال للواردات؛ حيث حدثت تغييرات كبيرة في الاقتصاد المصري خلال عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين؛ وقد كان القطاع العام مسؤولا عما يقرب من90 بالمئة من إجمالي الاستثمارات التي تستثمر في مصر خلال الفترة من1960 إلى.1973غير أن تراجع الاقتصاد المصري والذي بلغ ذروته في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، قد اضطر الحكومة المصرية إلى تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي وذلك لتحرير القطاع العام من بعض القيود التي تقيده، وتحرير التجارة وسوق المال وجذب الاستثمارات الأجنبية؛ بالإضافة إلى برنامج لإعادة هيكلة وخوصصة شركات القطاع العام بما في ذلك البنوك وشركات التأمين والخدمات، وبذلك سادت سياسة اقتصاد السوق للمرة الثانية، إضافة إلى ذلك فإن مصر تواجه شأنها شأن كل البلدان المتخلفة التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة.وإذا كانت مصر تشكو من الضغط السكاني الذي يعتبر عائقا كبيرا أمام التطور الاقتصادي، إلا أن هناك آراء أخرى تؤكد أن الزيادة السكانية من منظور اقتصادي سلاح ذو حدين إذ يمكن اعتبار زيادة عدد السكان عنصر نمو أحيانا لما تضيفه من طاقات بشرية إذا أحسن استغلالها وعلى الجانب الأخر يمكن أن تؤثر سلبا على جميع القطاعات.ويذكر مراقبون أن مصر تنبهت لمشكلة الزيادة السكانية منذ سنوات الأمر الذي وضع هذه القضية على أولويات الأجندة السياسية.وتقول الحكومة المصرية إن مصر وصلت إلى مرحلة لا تتحمل فيها أكثر من طفلين لكل أسرة، على الرغم من انه يحلو للبعض التصوير بأن هناك التباسا بين الدين وتنظيم الأسرة، رغم أن المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية أكدت مرارا عدم وجود أي التباس في هذا المجال. سياسة الإصلاح الاقتصادي ارتدت على ''المشروع الناصري'' لفهم معنى الانفتاح الاقتصادي وطبيعة هذه السياسة ودلالتها، لا بد من الرجوع إلى الوثائق القومية الأساسية وبالذات ورقة أكتوبر، التي أصدرها الرئيس محمد أنور السادات ونشرها في ,1974 فلقد جعلت ورقة أكتوبر من الانفتاح أحد المهام الرئيسية للمجتمع المصري في المرحلة القادمة، وجاء هذا انطلاقا من تشخيص الورقة لمشكلات مصر الاقتصادية، فهي ترى أن عبء الإنفاق العسكري قد هبط بمعدل النمو في مصر 6.7 بالمئة سنويا خلال الفترة 1956 - 1965 إلى أقل من 5 بالمئة سنويا بعد ذلك، وهي ترى أن استعادة المعدل القديم للنمو يجعلنا ''في أمسّ الحاجة إلى موارد خارجية'' ومن هنا كانت الدعوة للانفتاح الاقتصادي، وهي دعوة مبنية على تقدير لاحتياجات الاقتصاد المصري من ناحية والفرص المتاحة للتمويل من ناحية أخرى، ولا تتمثل فائدة الانفتاح طبقا لورقة أكتوبر في تزويد مصر بالموارد المالية اللازمة للتنمية فحسب، بل وأيضا في تزويد مصر ''بأحدث وسائل التكنولوجيا الحديثة'' ولا يفوت ورقة أكتوبر أن تؤكد أن ''الانفتاح الذي أعلناه هو انفتاح على العالم كله شرقه وغربه'' مع الترحيب بالاستثمار الأجنبي لما يحمله معه من معرفة تكنولوجية نحتاج إليها، فالانفتاح الاقتصادي في تصور ورقة أكتوبر، وهي الوثيقة الأساسية في هذا المجال، يعنى فتح الاقتصاد المصري للاستثمار الخاص المباشر من الخارج. ولقد أدى الانفتاح الاقتصادي إلى نتائج اقتصادية عديدة، كان أبرزها تجزئة الاقتصاد المصري، فقد تحول إلى مجموعة متمايزة وأحيانا متنافرة من الاقتصاديات، فلم يعد الأمر قاصرا على القطاعيين العام والخاص والقطاع التعاوني، وإنما ظهرت إلى جانب هذه القطاعات أربعة قطاعات أخرى هي القطاع المحلى المختلط القائم على المشاركة بين رأس المال المحلى ورأس المال العام، والقطاع الأجنبي الخالص المملوك للأجانب، والقطاع المشترك الذي يقوم على المشاركة بين رأس المال العام ورأس المال الأجنبي، والقطاع المختلط القائم على المشاركة بين رأس المال الخاص المحلي ورأس المال الأجنبي، وبالتالي أصبح الاقتصاد المصري منقسما إلى أجزاء عديدة، فكل منها قواعده وآلياته الخاصة، مثل السوق الخاصة وقواعد خاصة بالتسعير وتشغيل العمال والأجور والتمويل... الخ. ومن ناحية ثانية، فقد أدى الانفتاح إلى إضعاف القطاع العام، والذي كان يمثل الركيزة الأساسية لما حدث من نمو اقتصادي في الستينات، وكان الأداة الفعالة للسيطرة المركزية على الاقتصاد والسند الرئيسي في ممارسة التخطيط، وإذا كان القطاع العام لم يتعرض بأكمله للتصفية ''الجسدية'' في زمن الانفتاح، فمن المؤكد أنه قد تعرض لما هو أخطر، وهو التصفية في زمن الانفتاح، فمن المؤكد أنه قد تعرض لما هو أخطر، وهو التصفية ''الروحية'' والتفريغ ''المعنوي'' فقد انخفض نصيب القطاع العام في الاستثمارات الإجمالية بانتظام من نحو 90 بالمئة في أوائل السبعينات إلى نحو 77بالمئة في عام 1979 وإلى نحو 75بالمئة خلال سنوات الخطة الخمسية ''مابين 82 - ''87 ولا يقل أهمية من ذلك ما جرى للقطاع العام من استنزاف للخبرات والمهارات والعمالة المدربة، ليس فقط بالهجرة إلى الدول العربية، بل وانتقالها إلى الشركات الانفتاحية، أي لتشغيل القوة المنافسة للقطاع العام ذاته. ومن ناحية ثالثة، أدى الانفتاح إلى ظهور مراكز قوى جديدة، فقد نشأت مراكز قوى اقتصادية اكتسبت نفوذا وهيمنة لا يستهان بها على توجيه السياسات الاقتصادية ووضع القرارات العامة. ومن ناحية رابعة، أدى الانفتاح الاقتصادي إلى ''نمو هش'' في الاقتصاد المصري، فهو نمو خدمي بالدرجة الأولى لم تكن الأولوية فيه للقطاعات السلعية كالزراعة والصناعة وإنما للقطاعات غير السلعية كالتجارة والتوزيع والمال والإسكان الفاخر والنقل الخاص وسياحة الأغنياء وما إليها فبينما بلغت معدلات النمو في القطاعات الخدمية من 12 بالمئة إلى 14بالمئة لم يزد معدل نمو الزراعة عن 2 بالمئة على أكثر تقدير ولم يتعد معدل النمو في قطاع الصناعة والتعدين 6 بالمئة طبقا للإحصاءات الرسمية، كذلك فانه نمو لا يستند إلى عناصر القوة الذاتية للاقتصاد المصري بقدر ما يستند إما إلى اعتبارات طبيعية كالطفرة في استخراج البترول وتصديره أو اعتبارات خارجية مثل حركة الملاحة العالمية وتأثيرها على إيرادات قناة السويس أو الأوضاع الخاصة بدول الخليج وتأثيرها على استيراد العمالة المصرية، أو تدفق الاستثمارات الخارجية الأخطر من ذلك القروض والمعونات الخارجية، وهو نمو هش لا يستمر لأمد طويل، هذا فضلا عن أنه نمو ''مرهون'' للأجانب، فهو مثقل من البداية بعبء دين خارجي ضخم، اتجه للتزايد في سنوات الانفتاح، على الرغم من أن إحدى ذرائع الانفتاح هي تقليل الاعتماد على القروض الأجنبية وإحلال الاستثمارات الأجنبية محلها، غير أن ما جاء إلى البلاد من استثمارات أجنبية كان قليلا، وبالجملة واستنادا إلى عديد الإحصائيات لم تر البلاد من غيث الاستثمار الأجنبي سوى القطرات وتم إغراقها في بحر من الديون الخارجية بالإضافة إلى ذلك فأن هذا ''النمو الهش'' اقترن باتساع الفوارق بين الطبقات، وبالتالي ازدياد حدة الصراع الطبقي في المجتمع.