تؤكد توجهات السياسة الفرنسية ارتكازها على النظرة الواقعية، ويعود ذلك إلى تقاطع المصالح السياسية بالاعتبارات الاقتصادية وبروز معطيات جيو استرتيجية جديدة دفعت فرنسا إلى الإبقاء على اتصال مع الجزائر للحفاظ على مصالحها فيها، وحتى لا تخسر المزيد على ما خسرته وفازت به الولاياتالمتحدة وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا خاصة في مجال النفط والغاز. تمكنت فرنسا في ظل السياسة الانفتاحية للجزائر من تدعيم وجودها في قطاع المال والأعمال ومجالات الاستثمار والشراكة، وكانت السباقة في فتح فروع للبنوك الفرنسية بالجزائر، واستغلال الفرص المتاحة في مشاريع النفط والغاز، وساهم في الولوج السهل للمتعاملين الفرنسيين وجود روابط تاريخية وعلاقات شخصية بين المسؤولين في البلدين على أعلى المستويات وفق منطق المصالح المتبادلة، واحتفاظ الذاكرة الجماعية عند الجزائريين بجودة وجدوى التعامل مع الفرنسيين، ولعل هذا الاعتبار هو الذي أبقى التعاون الاقتصادي بعيدًا عن توترات الأجواء السياسية والبرودة التي تعتري العلاقات بين الحين والحين. من جهتها تريد الجزائر دائمًا إلغاء مفهوم الوصاية والتدخل الذي يشوب كثيرًا الاهتمام الفرنسي بالشأن الجزائري، وهي من أجل هذا تحرص على تبديد قلق المتتبعين الفرنسيين للوضع في الجزائر مما يمكن أن تسببه لهم تطورات الأحداث من متاعب، والإيجابي المسجل هو تحول نظرة الأوساط الاقتصادية والمالية الفرنسية إلى تشجيع الشركات الفرنسية على الاستثمار بالجزائر وتجاوز البعد التجاري الذي كان سائدًا في العلاقات الاقتصادية بين البلدين والمتمثل في التصدير. وأفرز التقاء الموقفين عقد اجتماعات بين المتعاملين الاقتصاديين من البلدين لإزالة الغموض حول السياسات الاقتصادية والأدوات القانونية حول الاستثمار الأجنبي، ودراسة سبل رفع حجم الاستثمار الفرنسي، كما نظمت الغرفة الفرنسية للتجارة والصناعة الزيارات المتبادلة لرجال الأعمال لبحث الفرص المتاحة في السوق الجزائرية وإمكانيات الاستثمار، كما أعلنت الشركة الفرنسية لضمان التجارة الخارجية رفع نسبة الضمان للمؤسسات الفرنسية في حال مشاركتها في الجزائر، وهذا في حد ذاته عامل مشجع قوي نظرت إليه الجزائر بتقدير كبير لأنه يسقطها من قائمة الدول ذات المخاطر الكبيرة. إن تفكير السلطات الفرنسية في إعادة النظر في استراتجيتها الاقتصادية نحو الاستثمار كان بالنسبة للجزائريين رسالة هامة للدول الأخرى أن وضع البلاد الداخلي قد تحسن، وأنه لم يعد الاعتبار الأمني العامل الرئيسي الذي يبرر تردد الشركات الأجنبية في القدوم إليها، وتتركز المؤسسات الفرنسية أساسًا في مجال الخدمات البترولية بينما ينظر إليها في الجزائر بتحفظ لكون الوسائل التكنولوجية المعروضة من فرنسا ليست من صنع فرنسي بحت، بل شاركت فيه الخبرات الألمانية والإنجليزية، وأن ما تعرضه المؤسسات الفرنسية في مجال الخدمات البترولية ضعيف مقارنة بما تملكه المؤسسات الأوروبية الأخرى والولاياتالمتحدة من إمكانيات، وتكون لدى خبراء شركة سوناطراك اتجاه بعدم المخاطرة في الاعتماد على المؤسسات الفرنسية التي كانت أول من رحلت عن الجزائر في بداية تأزم الوضع السياسي والأمني. وتشير أرقام مصالح الجمارك إلى أن فرنسا تظل الممون الأول للجزائر بنسبة تقارب ال20 بالمائة من إجمالي ما استوردته الجزائر في الثلاثي الأول للسنة الجارية وقدرت بعض الأوساط حجم المبادلات التجارية بين الجزائروفرنسا بأكثر من 8 ملايير أورو، كما تحتل فرنسا صدارة مموني الجزائر منذ سنوات رغم أن الجزائر اتجهت في الأعوام الأخيرة إلى تنويع شركائها الاقتصاديين داخل المنطقة الأوروبية وخارجها, وفضلا عن تصدير منتجاتها فإن أكثر من 250 شركة فرنسية لها فروع في الجزائر توفر أكثر من 20 ألف منصب عمل مباشر وقرابة 100ألف منصب عمل غير مباشر في قطاعات مختلفة منها الصيدلة والسيارات والطاقة والبنوك وبالمقابل تعد الجزائر ثالث ممون لفرنسا بالمحروقات لا سيما الغاز وذلك بعد النرويج وهولندا لكن متقدمة على روسيا إلا أن كل هذه الأرقام بما تعكسه من قوة في العلاقة الاقتصادية بين الجزائروفرنسا تبقى بعيدة عن تجسيد ذلك ''الرابط'' المميز بين البلدين? فالفرنسيون أنفسهم يعترفون في كل مرة أن تواجدهم في الجزائر لا يعكس العلاقة الخاصة مع الجزائر، ولعل خصوصية العلاقة هي التي جعلت الشركات الفرنسية تعتقد أن الأمور محسومة لها لولا التغيرات التي عرفتها الجزائر في السنوات الماضية بعد قرار السلطات باللجوء إلى تنويع شركائها الاقتصاديين حتى لا تقع في مصيدة ذلك الارتباط الوثيق بالشريك الفرنسي الذي كلفها غاليا في سنوات الجمر حينما فرض عليها حصار غير معلن وأدركت السلطات والشركات الفرنسية هذا الواقع مؤخرا مما جعل أكبر المسؤولين يدعون مؤسسات بلدهم إلى اقتحام السوق الجزائرية والابتعاد عن التردد لأن الجزائر أصبحت محط جذب لمستثمرين من جنسيات مختلفة لاسيما العرب إضافة إلى الصينيين والأمريكيين