لما يبزغ النور مع الفجر، فيكسر شعاع الشمس ويوقظ بطلته الهمم ويحطم معالم الصمت، ترى الصالح يحمله حقيبة معداته وسترته، إنه وقت خروجه من المنزل وعليه أن يكون بين رفاقه العاملين في معمل النسيج في الوقت المحدد، ويوزع كعادته تلك البسمة الباردة التي صارت جزءا من ملامحه فقد علمته الحياة أن يبتسم كأبسط حق عليه لغيره، بسمة لا تفارقه إلا عندما ينظر في عيون الآخرين وبرى على وجوههم الممتلئة ببسمات طبيعية مشرقة.. وهم يسترقون بعض الدقائق للعبث و الدردشة في أمور سخيفة تافهة مقارنة بالمطلوب من كل واحد، ما يزيد قلبه المحطم وجعا، فيعود لينهمك في عمله مقطب الجبين مستاء من زمن صار فيه للعبث نكهة وللخيانة شهرة، ما يُجبر العاقل على السكوت والتأمل. يمر اليوم على مهل دقائقه ساعات في اعتبار ذاك الرجل الواقف أمام آلة النسيج محملا بنكهة العمل صانعا الابتسامة رغم الكآبة التي تغزوه من حين لآخر قبل أن بلفظها قلبه المحطم. أجل، لا غرابة أن يخفي المرء مشاعره في ساحة خلت من فن السعادة، ولا عجب أن يصير للزمن الماضي الذي كنا نكرهه أو نعتقد أو نوهم أنفسنا عبثا بأننا نكره ،عندما تعاودنا الذكرى ، أثرا.. لذلك يجد ذاك الرجل الكئيب صعوبة في معايشة هؤلاء القوم الذين يحيطون به في مكان عمله المليء بالتناقضات، ''الضجيج المختلف، رنات الهواتف، دوي المحركات وأزيز الآلات، وسيل من الصراخ والتعليمات وضحكات تعلو من حين لآخر في الزوايا هنا وهناك'' وجو مشحون بالتشنجات. رغم ذلك، استمر عمله اليومي بتواتر وتواصل سنين في تلك القاعة الصاخبة المزدحمة، إلى أن صار لا يطيق الأمر على ما هو عليه، وأصبح يغتنم كل فرصة تتاح له من أجل الهروب نحو الغابة المطلة على السد حيث الخضرة ولطافة الجو وأسراب الطيور والفراشات، بحثا عن الهدوء و السكينة ورغبة في تعويض ما حرم منه عياله، ويعلل النفس بالأمل وهو يسترجع الذكريات مع من شاركته متاعب صموده ومراحل كفاحه، واعتنت بتربية أبنائه.. لكنها رحلة طالما ذكرته بالكثير مما لا يستطيع قلبه الكسير تحمله بعد أن قطع كل هذا الشوط المؤلم المليء بالصبر. وذات يوم جلس كعادته وفسح المجال للعب أولاده، أقبل عليه رجل أضاء الشيب مفرقه، دنا منه وحياه مبتسما، فرد عليه التحية وسأله هل لك عندي طلب؟؟ أبتسم الرجل وقال: لا يا صالح، ليس لي طلب وإنما لم أرك منذ الصبا ففرحت اليوم بلقائك، أنا فلان ...ألا تتذكرني؟ نهض الصالح وصافحه من جديد وجلسا في حوار حميمي، قال الرجل لصالح: أنسيت صداقة فتوتنا؟: ابتسم الصالح كعادته متكتما على ما بداخله وقال: كيف أنسى نعمة الصداقة التي أنعم ربنا عز وجل علينا بها، فهي الوجه غير المرئي للحب، تجمع بين الناس لغير غرض إلا الود والمحبة ،ولكن هل مازال في زماننا هذا صداقه حقيقيه؟ نحن في زمن صار فيه كل شيء بثمن، زمن غاب فيه التكافل الاجتماعي و المشاركة الوجدانية ،زمن أهمل فيه الماضي وانمحت من ساحته الآفاق، قضيت جل عمري أجهد نفسي بالعمل، أحاول نسيان مجريات الواقع وتناقضاته، لكن دون جدوى ، إن ضمير المعمورة لا يهتز، عندما بتألم الضعيف فوجعه لم يعر له اهتمام، وجع أنساني ينحره الظلم ويزهقه الباطل، والحق مجرد حلم، فأنجع دواء لجراح النفس هو التأسي بالزمن...تأسف الصديق وقال: يبدو أني أثرت أحزانك فمعذرة أيها الصديق.. معذرة. تنهد الصالح وقال: أحزاني لم تنم يوما ولم تخبوا نار جدوتها منذ استشهاد والدي، فليس بالسهل على ابن العاشرة يشهد وفاة أبيه، ويرى جسمه وقد قطعته شظايا قنابل العدو في حرب فرضت علينا في ديارنا، ذلك المشهد المريع جثمان تشيعه كوكبة شبانيه ليلا بشعار الله أكبر...يحيا الوطن، والدي هو بطلي وهو رفعة راسي، أفتقده دائما، وازداد حبي للوطن حين أدركت ان فداءه بروحه للوطن يعني ان هذا الوطن يستحق ما أصابني من الم من اجله ، من آلام فاستمرت رحلة عشقي لهذا الوطن منذ ،ذلك اليوم، وبدلت قصارى جهدي طول عمري في سبيل خيره. لم يدرك جروح الوجع إلا أمثالي، وظلت الحسرات محبوسة بدواخلنا، كنت عبوسا لا أتذوق كل شيء غريب، واحتفظت بالغموض والشعور بالإحباط،، ذكرى الشهيد عابرة، وابنه مهمش، بينما تهتز الحشود لموت سافل ويتضامن الآلاف مع ابن خائن. عندها قال الصديق: هل هذا شعور بأنك تنتمي لأمة ضالة منكسرة؟ .. أكيد أنه تأثير ما مررت به وما مر به وطني. إن أهم شيء يمل ه الإنسان هو الوطن، نعم... أنت على حق، والقصة لا يمكن إدراك تفاصيلها في هذه العجالة أليس كذلك؟.. لكن سردها لا يشعرني بالحرج رغم أني أراها مكتوبة بشكل سيئ ، فالأحرف تبدو... عرجاء، تتصرف بطريقة لا يمكنها تقديم الفكرة عن أسباب ذلك الوقائع بصراحة . ولكن، من أين تدخل السعادة قلبي وأنا غريب في دياره... لقد عايشت الثورة وعرفت الثوار، وعشت أيام محنة الجزائر، و منذ ثمان وأ ربعين عاما آمل أن يتجه وطني نحو الأفضل ... أليس هذا كاف لأن نقول نحن امة من سرة؟ لا أريد منك الجواب يا صديقي..، ولا أريد أن أزيدك هما على ما تحمله من هم... وإنما استعراض لما نعانيه من المرارة، حتى تدرك أن نسمات الحرية التي هبت على الجزائر ثمرة ويلات ثيرة ، والكثير يريدون اليوم خنق تلك النسمات..