ما من يوم يمر إلا وتطلعك وسائل الإعلام المختلفة بأخبار تختلط فيها الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال، لدرجة أنه يتغطى عليك نور الإدراك فلا تستطيع التمييز بين صدقية الأخبار ومفبركها، ولا تقدر أن تحدد الأهداف التي يريد أصحابها بها الوصول إليها. فبعد الذي أحدتثه وثائق ''ويكيليكس'' والتي تطلعنا كل يوم بالجديد وما يطرح حولها من علامات استفهام كثيرة حول مصادرها وأهدافها، بعد هذا تخرج قناة ''الجزيرة'' بوثائق أخرى تزعم أنها جاوزت 1600 وثيقة فيما يزيد عن 6000 صفحة كلها تتعلق بمفاوضات السلام الإسرائيلية- الفلسطينية. لقد اشتغلت القناة على هذا الملف لعدة أشهر، وهيأت لهذا العمل فريقا من الخبراء في شتى المجالات وقسمتها إلى عدة محاور تتعلق بالأرض محل التفاوض وموضوع اللاجئين وقضية القدس وغيرها، والمحير حسب ادعائهم أن السلطة الوطنية وهي تتفاوض مع الطرف الإسرائيلي تنازلت عن كل شيء، فأما موضوع الأرض فقد اكتفت بدولة تساوي 1 / 50 من مجموع الأرض وأما موضوع اللاجئين فقد اكتفت بالمطالبة بعودة 10.000 فلسطيني كل سنة لمدة عشر سنوات أي ما يساوي 100.000 لاجئ، وأما قضية القدس فقد تخلت عن القدسالشرقية إلا قليلا، وقد أشارت الوثائق إلى أن السلطة كانت حريصة على بقاء الكثير من المستوطنات لمصلحة مشتركة بينها وبين الإسرائيليين، كما كانت تؤكد على بقاء الحصار على غزة، بل كانت على علم بضرب غزة وتقتيل أطفالها أثناء العدوان الهمجي الأخير عليها. لقد فتحت قناة ''الجزيرة'' الملف تحت عنوان ''كشف المستور'' وبدأت سلسلة المناقشات والتي ستدوم حسبهم أربعة أيام، تعرض فيها الوثائق التي تؤكد صدق ما يقولون عن طريق التحليل والمقارنة والمقاربة، وكان من بين المدعوين للنقاش في الحلقة الأولى صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين والذي نفى جملة وتفصيلا هذه الوثائق التي سماها ادعاءات، بل ودافع عن الموقف الفلسطيني وأبعد هذه التهم التي تصب كلها في خانة الخيانة وبيع القضية بتواطؤ من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولم يعط مقدمو الحصة الفرصة الكافية لصائب عريقات كي يدافع عن المفاوض الفلسطيني ويثبت أن هذه الوثائق هي مطالب الإسرائيليين، وليست اتفاقا بين الطرفين. إن السؤال الذي يطرح نفسه في كل هذا هو هل صحيح أن السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس باعت القضية الفلسطينية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فهي المصيبة التي لن تزيد كل عربي وكل مسلم إلا إحباطا وفقدانا للأمل، كيف لا؟ وهي تنسف كل التضحيات عبر عشرات السنين، وتتآمر على أقدس المقدسات لتسلمها على طبق من ذهب لليهود أعداء الأمة، هذا الكيان الذي زرع في قلب الوطن العربي ليكون سببا في التشرد والتشتت بل والتطاحن العربي. وإذا كان الجواب بالسلب، فهناك أمر خطير يدبر من وراء هذه القضية، وهو أن قناة الجزيرة تروج للأطروحة اليهودية وتتلقي معلوماتها من مصادر العدو لتشكك في كل ما هو عربي وتنسف كل محاولات استرجاع الأرض والدفاع عن المقدسات، كل ذلك تحت عنوان حرية التعبير والصحافة ودور الإعلام في كشف الحقائق وتنوير الرأي العام. إن الموضوع لا يحتمل أكثر من قراءتين وكلاهما أخطر من الأخرى، فإما أن السلطة الوطنية الفلسطينية المفاوضة متواطئة مع إسرائيل مهمتها بيع ما تبقى من الأرض والعرض، وإما أن قناة الجزيرة سيف مسلط على العرب، مهمته التشكيك في كل ما هو عربي حتى تزرع اليأس والقنوط وتزيد من هوة الشتات والتشرذم، تحت غطاء ''كشف المستور''.