اعلم أن من أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذان هما وسيلة إلى التوسع في المطعومات، ثم يتبع استكثار المال والجاه وأنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق مجارى الشيطان لأذعنت لطاعة الله عز وجل ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، عن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه” (الترمذي وقال: حسن صحيح). وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روى أن ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا لأن أصل كل داء التخم، فهذا من منافع قلة الغذاء وترك التملوء من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته. وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقلل من الأكل في الحديث المتقدم وقال: “حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء” والمراد أن المؤمن يأكل بآداب الشرع فيأكل في معي واحد والكافر بمقتضى الشهوة والشره، والنهم فيأكل في سبعة أمعاء، وندب صلى الله عليه وسلم مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه فقال: “طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة” فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه وشرب في ثلث وترك للنفس ثلثا كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: قال بعض السلف: كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيرا فتشربوا كثيرا فتخسروا كثيرا. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجوعون كثيرا، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها؛ ولهذا كان ابن عمر يتشبه به في ذلك مع قدرته على الطعام وكذلك أبوه قبله. وعن عائشة قالت: “ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض”. ومن فوائد الجوع كذلك أنه يورث الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع، فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء وتأخرت عنها. وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا يرى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائما مشاهدا نفسه بعين الذل والعجز، ومولاه بعين العز والقدرة القهر، فليكن دائما جائعا مضطرا إلى مولاه. وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحة واتباعها بكل حال، فبقدر ما يستوفى العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)، وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخرة.