روى الترمذي وأحمد عن المِقْدامِ بن معْدِي كَرِب رضي اللّه عنه قال: سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ''ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثُلُثٌ لشرابه، وَثُلُثٌ لنفَسِه''. هذا الحديث أصل جامع لأصول الطِّبِّ كلِّها، فقد روي أنَّ أحدَ الأطبَّاء الغربيِّين لمّا قرأ هذا الحديث قال: لو استعمل النّاس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام كلِّها، ولتعطَّلت دكاكينُ الصيادلة، وإنّما قال هذا لأنَّ أصل كلِّ داء التُّخَم، قال الحارث بن كلدة طبيب العرب: الحمية رأس الدواء، والبطنة رأس الداء. إنَّ الدِّينَ الإسلامي الحنيف جاء ليحافظ على الضّرورات الخمس، وإنّ النّفس واحدة من هذه الضرورات، بل هي أهمُّها، فقد جاء الإسلام ليبيّن للإنسان أسباب هلاك النّفس، لكي يكون على علم بما يصحُّ به جسده فيحفظ نفسه، وبما يمرض جسده فيهلك نفسه، وإنّ هذا الحديث الطبيّ النّبويّ جاء ليعالج جسم الإنسان، فيركّز على أخطر شيء فيه ألاَ وهو البطن، فيأتي الطب الحديث ليتكلّم بهذا، فيعترف الأطباء بأنّ أصل الدّاء هو ملء البطن. قال بعضهم: لو قيل لأهل القبور: ما كان سببُ آجالكم؟ قالوا: التُّخَمُ. فهذا الكلام يدلُّ على أنَّ الطبَّ توصَّل إلى أنَّ صحَّةَ البدن في تقليل الغذاء، وترك التملي من الطعام. ففي الصّحيحين أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ''المؤمن يأكل في مِعىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء''. والمراد أنّ المؤمن يأكل بأدب الشّرع، فيأكل في معى واحد، والكافر يأكل بمقتضى الشّهوة والشّرَه والنّهم، فيأكل في سبعة أمعاء. وندب صلّى اللّه عليه وسلّم مع التّقليل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار الباقي منه، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ''طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة''. كان السلف الصّالح يندبون إلى التّقليل من الأكل، يقول محمّد بن واسع: مَن قلّ طعامه، فهم، وأفهم، وصفا، ورقّ. ويقول إبراهيم بن أدهم: مَن ضبط بطنه ضبط دينه، ومَن ملك جوعه ملك الأخلاق الصّالحة، وإنّ معصية اللّه بعيدة من الجائع، قريبة من الشّبعان، والشّبع يُميت القلب، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك. والتّقليل من الطعام يورث رقَّةَ القلب، وقوّة الفهم، وانكسار النّفس، وضعف الهوى والغضب، ويُنوِّر القلب، ويصحّ الجسم، ويقلّل من النّوم، ويعين العبد على المسارعة إلى الخيرات. إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي - براقي