قلب رحيم.. وصدر حنون.. مجبول على الشفقة.. نفس كبيرة وسعت ما لم تسعه آلاف النفوس.. لا يجازي السيئة بالسيئة، بل يزيد المسيء إحسانا.. لم يظفر بخصال الرقة والشفقة سواه.. إنه المخلوق الوحيد الذي يعطي ولا يطلب.. ويبذل ولا ينتظر شكر.. هل سمعت بمخلوق يحبك أكثر من نفسه التي بين جنبيه ؟!! إنه قلب الوالدين.. وكفى.. رمز الحنان.. وكنز العطف والأمان ورعايتهما والمحافظة على كرامتهم والإحسان إليهم ليس حدثا جديدا، ولكنه أمر سماوي دعت إليه الشريعة الإسلامية منذ خمسة عشر قرنا : قال تعالى: "وَقَضَى رَبكَ أَلا تَعْبدواْ إلا إياه وَبالْوَالدَيْن إحْسَانا إما يَبْلغَن عندَكَ الْكبَرَ أَحَدهمَا أَوْ كلاَهمَا فَلاَ تَقل لهمَآ أف وَلاَ تَنْهَرْهمَا وَقل لهمَا قَوْلا كَريما وَاخْفضْ لَهمَا جَنَاحَ الذل منَ الرحْمَة وَقل رب ارْحَمْهمَا كَمَا رَبيَاني صَغيرا".. ولكن اليوم تسير العلاقات الإنسانية نحو الضعف والاهتزاز حيث فقدت الأجواء الأسرية ذلك البريق الذي كنا نتباهى به كعرب ومسلمين وأصبح الأساس في العلاقات محكوما بالمصالح المادية والمنفعة المتبادلة، وأكثر ما يثير الحزن والاستهجان ما بدا يبرز في الآونة الأخيرة من تنكر بعض الأبناء لوالديهم الذين أمضوا سنوات العمر في السهر على راحتهم وتوفير سبل الحياة الكريمة ليرموا بهم في دور العجزة...تبدأ حياة الإنسان بطفولته ثم تنهي بشيخوخته، أين يبلغه الكبر فتسقطه الأمراض طريح الفراش، عاجزا عن التنقل كما كان في سابق عهده فيستعيد ذاكرة ماضيه الذي ختمته الحياة بطابع البؤس والحرمان وأدخله إهمال الأبناء لآبائهم نفقا مظلما ومسدودا، لتحتويه دار العجزة بعدما يقوم الأبناء بنكران جميل الوالدين ليحرموا من العيش داخل دفئ الأسرة و أغلب الأبناء لا يعرفون قيمة رعاية الوالدين والحسنات التي سيكسبونها وراء ذلك، ويعتبرون رمي الوالدين في دار الشيخوخة أمرا عاديا !!سجلت الجزائر أرقاما مخيفة في استقطاب المسنين، الذين رموهم أبنائهم متناسين سنين والصبر والرعاية الطويلة التي منحوها إياهم، فما إن يبدأ أحد الوالدين عن العجز حتى يصبحوا عبئا ثقيلا على الأولاد، خاصة إذا كانا يعيشان مع الكنة التي لا تعوض بأي شكل من الأشكال ابنتهما، أو الصهر الذي لا يعوض الولد، ولكن هذا لا يبرأ الأبناء فحتى هم لهم نصيبهم من الإهمال، خاصة إذا كان الوالد أو الوالدة في صحة سيئة، ما يجعلهما دائمي التوتر والقلق بشكل سريع،و هكذا يتعب من حوله.. ولكن هذا لا يستدعي أن يلقي الولد بوالده في مأوى للعجزة لقول الله عز وجل جلاله: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا" نظرات عطف وحنان وحزن تطل من كل دار زارت "الاتحاد" العديد من دور العجزة في الجزائر، وفي كل دار تلاقينا نفس النظرات وهي نظرات عطف وحنان وحزن تطل من أعين أباء بكوا على ذكرياتهم مع أولادهم فلذات أكبادهم.. ويتساءلون في كل لحظة هل يستحقون ذلك بعد تعبهم وسهرهم لتوفير الراحة والأمان ؟ هل هي زوجة الابن أم الصهر، أم الأبناء بحد ذاتهم؟ هل من مبرر لوضع الآباء بتلك الدور؟ هم مسنون فتحوا أعينهم ليروا فلذات أكبادهم يزجون بهم بمكان لن يخرجوا منه ألا محملين على الأعناق وهم يلبسون الكفن، بعدما ربو وكبروا كان هذا جزاؤهم وهذه نتيجة إحسانهم لهم، لم يجدوا هؤلاء الأولاد جزاء وجائزة أفضل من الرمي في هذا المكان.. حقا هو منظر يثير الألم والشجون.. أهكذا يعامل الأب والأم أهذا هو الحل؟ رجل نوفمبر.. جردوه من أملاكه ليودعوه بدار العجزة عمي الساسي في العقد الثامن أحد نزلاء هذه الديار منذ سنة، بدا في حالة ذهول للحال الذي وصل إليه وقد كان مجاهدا ابان الثورة الجزائرية، ابتدر حديثه بقوله "لم أكن أتخيل أن أكون في يوم من الأيام قابعا في دار للمسنين سكت برهة وقال: جعلني أولادي الثلاثة أوقع على كل ممتلكاتي لأتنازل عنها لهم وبعد ثلاثة أشهر أصبحت كاللعبة بينهم فهذا يرميني لذاك، فشعرت إنني أصبحت عبئا عليها وعرقلت حركتهم.. وذات يوم طالبني ابني الأكبر أن أذهب لدار العجزة لأجد من يهتم بي لأن زوجته حامل ولن تستطيع تحملي، فأتيت إلى هذه الدار برجلي ومن حينها لم أرى ولا أحد من أولادي.. أهله الأثرياء رفضوا أن يعالجوه العياشي كهل في نهاية الخمسين قال انه اصغر إخوته وان والده قسم الحقوق ولم يعطه نصيبه ورغم تقدم سنه إلا أنه لم يسبق له أن تزوج، ويقول أنه حتى لو أتى إخوته إليه مترجين إياه على العودة إلى أسرته التي تقطن مدينة الجلفة فلن يقبل لأنهم جرحوه"، وحسب المشرفة عليهم والتي تحفظت على اسمها فقالت أن العياشي يعاني من مرض خطير على مستوى العمود الفقري وقد علم المركز أن إخوته قد ورثوا الملايين من والدهم إلا أنهم تنكروا له وتجاهلوا مرضه وأبوا أن يسددوا تكاليف علاجه أو تكبد عناء السؤال عليه.. خالتي مسعودة.. أحالها أبنائها إلى التقاعد عن دورها كأم خالتي مسعودة الشلفية يدها المرتجفة لتمسح دموعها منهمرة من عيناها الحزينتان وهي تقول لا أعرف لماذا أنا هنا؟! ولماذا لا يزروني أبنائي وبناتي ؟! لماذا تنكر لي فلذة الأكباد وأنا التي لم أقصر ناحيتهم بأي شيء أبدا...؟هل تعبوا من خدمتي ؟؟وأنا التي قضيت حياتي كلها لخدمتهم بلا كلل ولا ملل.. ؟! بعيون صغيرة دامعة تستذكر خالتي مسعودة اليوم الذي أحالها أبنائها إلى التقاعد عن دورها كأم بعدما كبرتهم وزوجتهم.. حيث رفض أولادها المتزوجون التكفل بها خاصة وأنها مشلولة حركيا.. طبيب الدار وقد أجمع أطباء هذه الديار أن هناك أمراض مزمنة وأمراض نفسية بسبب الدوافع التي أتت بهؤلاء الناس إلى دار الشيخوخة حيث طرد بعضهم من قبل أسرته وآخرون بسبب مشاكل أسرية والبعض أتى به ابنه مثلا بسبب تضجر زوجته منه وهكذا.فكل منم يحتاج إلى إمداد دائم للعطف والحنان والحب ولو القليل منه لتعويض كل ما عانوه من قسوة أبنائهم.. فيما يقول مصطفى علوان أخصائي نفسي: " بدلا من أن تستفيد الأجيال اللاحقة من خبراتهم في الحياة وضعوا على الرف، لينتظروا مصيرهم المحتوم، وعلى رغم مما تقدم لهم دور العجزة من خدمة ورعاية لكن تبقى أسئلة تلح على خاطرهم.. "زيارتي أجدادي واجب ليس إلا" وقال صديق طالب ثانوي انه لا يرى جده وجدته إلا في المناسبات ليس لسبب وإنما لأنه اعتاد مرافقة والديه في الأعياد لتقديم الواجب فقط مؤكدا أن الفتور في أحاسيس الشباب اتجاه والديهم آو أجدادهم يعود في الأساس إلى التربية فإذا كرست الأسرة أهمية صلة الرحم في نفوس أبنائها شبوا وهم يضعون الاعتبار الأكبر لهذه العلاقة ويحرصون على إبقائها متوهجة، معترفا في الوقت ذاته انه يفضل قضاء وقته مع أصدقائه بدلا من أسرته. دعوة الوالدين تنجي من كل شر قرن الله تعالى الإحسان إلى الوالدين بعبادته وتوحيده، وكما أمر الإسلام ببر الوالدين وقرنه بعبادة الله فقد حرم عقوق الوالدين وجعله من أكبر الكبائر وقرنه بالإشراك بالله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟.... الإشراك بالله، وعقوق الوالدين".في قصة مأخوذة من حديث متفق عليه.. يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قصة ثلاثة رجال اضطروا إلى أن يبيتوا ليلتهم في غار، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم باب الغار، فأخذ كل واحد منهم يدعو الله ويتوسل إليه بأحسن الأعمال التي عملها في الدنيا، حتى يفرج الله عنهم ما هم فيه، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت أحضر لهما اللبن كل ليلة ليشربا قبل أن يشرب أحد من أولادي، وتأخرت عنهما ذات ليلة، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما أو أعطي أحدا من أولادي قبلهما، فظللت واقفا -وقدح اللبن في يدي- أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر، وأولادي يبكون من شدة الجوع عند قدمي حتى استيقظ والداي وشربا اللبن، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، وخرج الثلاثة من الغار.