ما حاجتنا لقانون سينما بينما لا ننتج سوى فيلمين سنويا لا أدري سبب الخوف من التلفزيون الخاص؟ ارتبط اسم عبدُ. ب بالتحول الديمقراطي لما بعد أكتوبر 1988، وبالضبط بالانفتاح الذي حصل على مستوى مؤسسة التلفزيون. وكل شهرة الرجل تأتي من هذا التحول العميق في تاريخ الإعلام الجزائري. مرت خمس عشرة سنة على استقالة عبدُ. ب من مؤسسة التلفزيون الجزائري، حيث شغل منصب مدير عام مرتين، وهو اليوم في مرحلة التقاعد. يكتب مرتين في الأسبوع في يوميتين بالفرنسية. ما يجري حاليا في مصر جعله مسمرا أمام قنوات التلفزيون. من الجزيرة إلى فرانس 24 مرورا بقناة تي أف .1 لكن، تبقى قناة ''الجزيرة'' هي القناة التي تشده أكثر، حتى أنه أطلق عليها تسمية ''الملكة الأم''، فهي السيدة، كأنها ''ماين ستريم''، تفرض سيطرتها على كامل شعوب العالم العربي. أصبحت الجزيرة، حسب عبدُ. ب، قبلة الشعوب العربية والإسلامية. يقولها متحسرا، وغير راض على واقع التلفزيونات الرسمية العربية. ويستطرد: ''الجماهير العربية لا تجد ضالتها في القنوات التلفزيونية الرسمية، فتجده يشكل صورته عن العالم عبر قنوات أجنبية. المواطن الجزائري مثلا، يشاهد مظاهرة في أي مكان في العالم خارج قناته. والحقيقة أنه لا يوجد أسهل من التلفزيون المفتوح، الذي يعتمد على الحوار، حيث يكفي منشط واحد وأربعة ضيوف وكاميراتان. ورغم هذا، نجد أن الإعلام في العالم العربي مغلق، ويوجد به نفس الخطاب الذي يخضع للتراتبية التي كان يخضع لها المكتب السياسي في العهد السوفييتي''. سألته إن كانت المجتمعات العربية تعرف تطورا في الأنظمة السياسية؟ فكان رده: ''بإمكان المجتمعات العربية، رغم القمع والانغلاق الإعلامي والسياسي والثقافي، أن تحقق الوثبة المرجوة، فهي تملك رصيدا ثقافيا ومخزونا تاريخيا يخرجها من براثن التخلف. أذكر أن السينمائي المصري يوسف شاهين بدا قلقا وممتعضا ذات مرة، وهو يتحدث لصحفي فرنسي، فقال له: ''كنتم تأكلون البشر لما خلق أجدادي الكتابة''. المجتمعات العربية متقدمة والسلطة تدفع إلى التخلف وأنا ذاهب للقاء الرجل، بقيت تراودني تجربة انفتاح التلفزيون الجزائري، التي أشرف عليها في عهد حكومة السيد مولود حمروش الإصلاحية. كانت بمثابة العهد الذهبي للتلفزيون، كانت النقاشات تدور على المباشر، وهي نقاشات بين النخبة السياسية والفاعلين والمثقفين، إضافة إلى الملفات الكبرى التي كانت تذهب إلى عمق تاريخ حرب التحرير. وعن تلك التجربة سألته، فأجاب بكثير من الثقة في النفس: ''عيّنت على رأس مؤسسة التلفزيون مرتين. وتمكنت من تحقيق انفتاح ما يزال يشهد له الجميع، صحافيون ونخبة سياسية ومثقفون. وحدث ذلك قبل أن تظهر قناة الجزيرة. وأستطيع القول إنني كنت سباقا في هذا المجال. لم يكن الانفتاح سهلا، فقد وجدت عقليات متحجرة ترفض التغيير، لكنني كنت مصرّا على إحداث الانفتاح. أذكر أنه في أول اجتماع مع إطارات مؤسسة التلفزيون، تحدثت عن نشرة الواحدة زوالا، فتناول أحد المسؤولين الكلمة، وقال: لم نسمع عنها منذ الاستقلال. وحينها، قررت أن يكون هناك جريدة مصوّرة على الواحدة زوالا''. لم يأت قرار انفتاح التلفزيون بدون قرار سياسي. وبخصوص هذه المسألة، يقول: ''لم أكن أعرف السيدين مولود حمروش والشادلي بن جديد شخصيا، كما يتصور البعض. كلاهما ليسا من دوّاري، ولم أحارب إلى جانبهما خلال حرب التحرير، حتى يقال إن شيئا ما يكمن وراء اختياري للشروع في الانفتاح. كل ما جرى أن مسؤولا كبيرا في الوزارة الأولى (وهو الآن سفير) اتصل بي وسألني إن كنت مستعدا لقبول منصب مدير عام مؤسسة التلفزيون، فقلت له أنا أعمل في الصحافة المكتوبة، ولا علاقة لي بالتلفزيون. فقال: أنت الرجل المناسب. فقلت: لِمَ لا، فلأجرّب''. وبالفعل، عمل عبدُ. ب، مع ثلة من الصحافيين الشباب الموجودين حاليا في القنوات الأجنبية، على غرار مراد شبين، خديجة بن فنة، مسعود ابن الربيع، حمراوي حبيب شوقي، رابح خودري... وعن هؤلاء الصحافيين، قال: ''وجدتهم يتجوّلون في أروقة المؤسسة، فسألتهم: ماذا تفعلون؟ قالوا: لا شيء. وفهمت أنهم كانوا معرّضين للتهميش. وبالفعل، قرّرت الاعتماد عليهم، وبالأخص لتنشيط الحصص المباشرة''. تغيرت الأوضاع كثيرا اليوم، وذلك ما دفعه إلى القول: ''أعطيك مثالا. ما عليك إلا بمتابعة برنامج التلفزيون في أي جريدة وطنية لتدرك أن الفوضى موجودة فعلا. هناك برنامج ينحصر في المنوعات الغربية، أو المنوعات الشرقية، أو الفيلم الأجنبي. وعلمت أن البرنامج يصل للصحافيين وفق هذه الطريقة. ولما كنت مسؤولا، كنت أحرص على حصول الصحافيين على البرنامج مفصلا كل يوم أربعاء، بحيث يأتي الصحافيون إلى المؤسسة ويحصلون على البرنامج بالتفصيل. أما اليوم، فالفوضى هي السائدة''. سألت الرجل إن كان مستعدا لإعادة التجربة، فأجاب أن الظروف لم تعد تسمح. فسألته ثانية: وما هو الحل حسب تصوره؟ فقال: ''يجب إحداث التغيير والإصلاح داخل مؤسسة التلفزيون، ويكون الإصلاح عميقا وبسرعة، كما يجب فتح المجال أمام القطاع الخاص، لكن بإنشاء قنوات تلفزيونية خاصة، مع وضع قوانين وهيئة مستقلة ودفتر شروط. فلماذا هذا الخوف من التلفزيون الخاص؟ إن القطاع الخاص موجود في الاقتصاد، فلماذا لا يوجد في مجال السمعي البصري''. التلفزيون الذي كنت أحلم به أصبح مستحيلا في 1993 تشعب الحديث مع عبدُ. ب، فعدت به إلى سنواته الأولى في مجال الصحافة، وعلمت منه أنه تخرّج من المدرسة العليا للصحافة، وبدأ العمل في الصحافة المكتوبة في مجلة ''الجيش'' لما كانت شهرية وتباع في الأكشاك. وفي بداية الثمانينيات، طلب منه مدير الإذاعة والتلفزيون، عبد الرحمان لغواطي رحمه الله، إنشاء مجلة ''الشاشتان''، بحكم كونه ناقدا في السينما والتلفزيون. فكانت تجربة رائعة بالنسبة للرجل، وعنها قال: ''وظفنا أربعة صحفيين، هم جمال الدين مرداسي، عز الدين مبروكي وموني براح، إضافة إلى شخصي. وفي القسم العربي، كنا نعتمد على ترجمات الروائي جيلالي خلاص، إضافة إلى ناقدين سينمائيين من العالم العربي هما سمير فريد من مصر وفريد بوغدير من تونس، إضافة إلى الناقد الخميسي من باريس''. حققت المجلة صيتا وانتشارا كبيرين، وكانت بمثابة مرجع في النقد السينمائي والتلفزيوني، حسب شهادة كثير من المختصين. وبعد خمس سنوات من العمل الجاد، حدث ما لم يكن ينتظره عبد. ب، فقد اتصل به المدير الجديد للمؤسسة (رفض ذكر اسمه) وأخبره أنه قرّر توقيف المجلة، فلا حاجة للمؤسسة لمثل تلك المجلات، كما أخبره. الشخص الذي تحدث عنه كان حينها عضوا في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، وكان حديث التعيين في منصب مدير عام مؤسسة التلفزيون. يسترسل عبدُ. ب: ''بعد تجربة ''الشاشتان''، وظفت في أسبوعية ''الثورة الإفريقية''، ووجدت هناك الصحفي زوبير سويسي. كان يقال عني آنذاك في أوساط المثقفين إنني صحفي يساري مقرّب من حزب الطليعة الاشتراكية. وبالفعل، أعتز بذلك. والحقيقة أن سويسي هو الذي ساعدني في ضرب ما كان يروّج عني بخصوص انتمائي لليسار عرض الحائط، وفتح لي أبواب الأسبوعية رفقة عشرين صحافيا يساريا، منهم بوخالفة مازيت، أكلي حمودي، عبد المجيد كاوة، موني براح وآخرين. كنا في سنة .1985 وحينها، برز نقاش داخل حزب جبهة التحرير الوطني، وظهر تيار المحافظين الذي راح يدعو إلى الانفتاح، إضافة إلى وجود ضغط في المجتمع يسير في نفس الاتجاه''. عمل عبدُ. ب في ''الثورة الإفريقية'' إلى غاية توليه منصب مدير عام مؤسسة التلفزيون. وإثر سقوط حكومة السيد مولود حمروش، واستقالة الرئيس الشادلي بن جديد، عاد إلى البيت. جرى ذلك في سبتمبر .1992 واستأنف عبدُ. ب حديثه مستعيدا تلك الأيام التي يعتبرها أياما صعبة، قائلا: ''استدعيت مجددا في سبتمبر 1993 للعودة إلى منصبي على رأس مؤسسة التلفزيون. وكنت حينها في عطلة مرضية، وأنوي الاستراحة بعد أن أجريت عملية جراحية تتطلب أكثر من خمسة أشهر راحة. حينها، كانت ظاهرة الإرهاب قد استفحلت، وبدأت عملية اغتيال الصحافيين، إذ قتل ستة صحافيين من التلفزيون في ظرف ستة أشهر فقط''. عودة عبدُ. ب إلى التلفزيون تزامنت مع رئاسة السيد علي كافي وحكومة رضا مالك. لكن ظروف العمل لم تكن مثلما وجدها في السابق، فقدم استقالته، وثبت في الجريدة الرسمية، رسميا، في أفريل .1994 بدا الرجل حزينا وهو يتحدث عن تلك الأوضاع، حيث قال: ''لم أتمكن من العمل. التلفزيون الذي كنت أحلم به أصبح مستحيلا. فقرّرت الفرار إلى باريس ومكثت هناك مدة سنة ونصف بدون عمل. مرت بي ظروف عصيبة. تركت عائلتي في باريس، وكنت أعيش اعتمادا على مساعدات الأصدقاء. رجعت إلى البلاد في شهر أوت .1995 ورويدا رويدا، عدت للكتابة الصحفية، وإلى يومنا هذا ما زلت أكتب مرتين في الأسبوع في صحيفتي ''لوكوتديان دوران'' و''لاتريبون''، حيث أكتب المقالة الثقافية، وكان بي حنين إلى أيام زمان''. جيلي كان يحلم بالعدالة وإنسان اليوم همّه ''البزنسة'' يجب إحداث التغيير والإصلاح داخل مؤسسة التلفزيون، ويكون الإصلاح عميقا وبسرعة، كما يجب فتح المجال أمام القطاع الخاص، لكن بإنشاء قنوات تلفزيونية خاصة، مع وضع قوانين وهيئة مستقلة ودفتر شروط. لا يزال عبدُ. ب يستعيد بكثير من الحنين تلك الأيام البعيدة، حينما كان يعمل كمحرر في القسم الثقافي بمجلة ''الجيش''، إذ يقول عنها: ''تعلمت مهنة الصحافة مع عمالقة كبار، أمثال كاتب ياسين ومحمد إيسياخم اللذين كنت ألتقي بهما في المقاهي وأجلس بجانبهما دون مخاطبتهما، حيث كنت أهاب منهما، وأتابع نقاشاتهما الفكرية الساخنة والحادة''. وعن الأسباب التي جعلته يختار اسم عبدُ. ب كاسم صحفي، ولا يمضي مقالاته باسمه العائلي الكامل، وهو بن بوزيان، قال: ''لأن أول مقال كتبته لم يعجبن، ولم أكن راضيا على الطريقة التي حررته بها، فقررت عدم وضع الاسم العائلي بالكامل، واكتفيت بعبدُ. ب. وإلى اليوم، لا يزال عبدُ. ب يرافقني بعد مرور أربعين سنة، حتى إنك إن قلت لشخص عبد بن بوزيان، فإنه لن يتعرّف علي''. عمل الرجل محرّرا ثقافيا في عهد الحزب الواحد، لكنه يعترف أن هامش الحرية كان متوفرا آنذاك أكثر مقارنة باليوم، وقال متأسفا: ''نعيش اليوم عصرا مختلفا، فقد تدنى المستوى الثقافي، بما في ذلك مستوى النخب المثقفة. علما أن النخب لما تتقهقر، يتقهقر المجتمع برمته. وألاحظ أن الفعل الثقافي أصبح يغلب عليه الطابع البيروقراطي، وهذا لا يؤدي إلى أي تطور، فالايديولوجيا كما قال ماركس: إما أن تكون مهيمنة أو لا تكون''. ولما سألته عن رأيه في قانون السينما الجديد، قال ساخطا: ''هل كان من الضروري سنّ قانون حول السينما؟ هل نحن فعلا بحاجة لهذا القانون؟ نحن الذين لا ننتج سوى فيلمين في السنة؟''. وأضاف: ''إن الغرض من سنّ هذا القانون معروف، وهو فرض الرقابة على الإنتاج السينمائي، والترويج الرسمي لتاريخ حرب التحرير. إنهم يريدون سينما تقول إن عبان رمضان استشهد في ميدان الشرف، وهذا غير مقنع''. وبكثير من الحسرة والأسف، يتحدث عبدُ. ب عن واقع المجتمع اليوم، وأحلام جيله الاشتراكي، حيث قال: ''الحركة الديمقراطية في الجزائر تشتتت. وجيلي كان يؤمن بالاشتراكية وبعالم الأفكار. لم نسع لامتلاك الفيلات ولا السيارات الفخمة، ولم نهتم بجمع الأموال. كنا نحلم بمجتمع عادل، مجتمع الأفكار. أما اليوم، فقد ظهر إنسان جديد، همّه الوحيد هو كسب المال. جيل البزنسة وليس الأحلام''.