الزج بكبار السن في دار المسنين (أو العجزة)، ظاهرة لا تزال تثير الجدل والاستنكار وسط شريحة واسعة من مجتمعنا، حيث يرفضها الكثيرون، معتبرين إياها شكلاً من أشكال العقوق للوالدين، فيما يرى آخرون بأنها حل عملي لمشكلة هرم أحد الوالدين وتحوله إلى عبء على أحد الأبناء أو بعضهم، وبالتالي، يراه البعض حلا إيجابيا في حال مرض أحد الوالدين وانتشالهم من الوحدة في حال انشغال الأبناء عنهم. ''الخبر'' رصدت الظاهرة وعادت بهذا التحقيق. يصاب العديد من الأبناء بالحيرة في بحثهم عن أساليب للتعامل مع كبار السن، خصوصا أنهم آباؤهم، ويحتاجون في كثير من الأحيان إلى رعاية طبية ونفسية، تمنحهم شعورا بالراحة والأمان، وبأن أبناءهم لم يتخلوا عنهم. وحتى لو ازداد الأمر سوءا من الناحية الصحية، فإن المخاوف تسيطر على المسنين، وربما تصيبهم بأمراض نفسية، لأنهم يحتاجون إلى رعاية تختلف اختلافا كليا عن الأفراد البالغين، وذلك بسبب التغيرات الفيزيولوجية والبيولوجية التي تحدث مع التقدم في العمر، إضافة إلى الأمراض والمشاكل الصحية التي تطرأ وتزداد سوءا مع الشيخوخة. يقول عمي ''صالح'' أو ''الجنرال'' مثلما يلقبه نزلاء الدار: ''مشكلتي في زوجتي، أبنائي السبعة وصهري.. جعلوني أهرب من بيتي الذي بنيته بعرق جبيني، لأن زوجتي زوجت ابنتي الصغرى دون علمي، ومنذ ذلك اليوم، قرّرت أن أمحوهم من ذاكرتي تماما''. يسكت برهة ثم يسترسل: ''قرّرت الهروب منهم والتفرغ لأمور ديني''. وبالقرب من محل الحلاقة الموجود داخل الدار، صادفنا الحاج محمد، 70 سنة، جالسا تحت شجرة مهموما: ''لست بخير، طلبت من مسؤولي الدار الخروج، لكنهم رفضوا أن يأذنوا لي''. وداخل محل الحلاقة، انفردنا بالعم بوخاري، 66 سنة، الذي روى قصته قائلا: ''أنا نادم على عملي دون تغطية الضمان الاجتماعي وعدم توفير بيت يجمع شمل عائلتي، حيث انقلبت حياتي رأسا على عقب بعد وفاة زوجتي أثناء ولادة بنتاي، وتوقفي عن العمل حرمني من تسديد إيجار البيت، فطردت منه وبقيت في الشارع، إلى حين تكفلت أختي الكبرى بي وبتربية بنتاي إلى غاية تزويجهما، بينما توجهت إلى دار المسنّين طواعية منذ سنة .''2003 صعوبة العيش.. مبرّر أول وأخير ولفت انتباهنا وجود مسنين قضوا معظم حياتهم بديار الغربة، ولما قرّروا الرجوع إلى الجزائر، لم يجدوا مأوى إلا دار العجزة، خاصة أنهم عاشوا حياتهم عزابا. ومن الأمثلة قصة ال''سي موح''، 86 سنة، الذي عاش بفرنسا. ولما قرّر الرجوع، لم يجد من يكفله بالجزائر، فلجأ إلى دار العجزة. أما قصة الموال ''ب.م''، 69 سنة، فمحيّرة. فهو ينحدر من مدينة فالمة، ويقول زملاؤه في الدار إنه جاء إلى العاصمة لبيع المواشي، لكنه خسر في أحد التعاملات كل أمواله، فلم يستطع العودة إلى بيته لمواجهة أبنائه، وبقي قرابة 8 سنوات بشوارع العاصمة تائها. وبعد عملية تفقد المشردين، قامت الجهات المختصة بتحويله إلى دار العجزة. ورغم توسلات أبنائه بالعودة إلى المنزل، ظل يرفض ذلك، إلى أن خيّرته إدارة الدار بين الاستجابة لهم أو طرده منها. وتحكي إحدى جارات المسنة بهية والدموع تنهمر من عينيها: ''عانت بهية الأمرّين جراء أنانية ابنها الوحيد الذي تخلى عنها ليحرف إلى أوروبا متناسيا أفضالها عليه''، مضيفة: ''لم تهضم فكرة أنها ستصبح وحيدة، فرفضت المكوث طويلا في دار العجزة، لتكون وجهتها نحو أقاربها بولاية الشلف الذين تداولوا على إيوائها.. غير أن تكرار اتهامها بتدليل ابنها ما أفسد طبعه، دفعها إلى افتراش الشارع ليلا والتسول نهارا، دون أن يعرف أحد وجهتها''. وما زاد في عذاب بهية سماعها خبر وفاة ابنها في ديار الغربة، وهو ما حولها إلى متشردة رغما عنها، ما دفع بأقاربها إلى تحويلها إلى دار العجزة والمسنين تفاديا لعواقب غير محمودة. لكن مثيلات بهية كثيرات. فاطمة، ورغم علامات الكبر وخطوط الحزن المحفورة في وجهها، إلا أنها قرّرت كسر جدار الصمت ورواية قصتها لأول مرة: ''أعاني من اضطرابات نفسية حادة بعد أن تخلى عني أبنائي بعد وفاة والدهم، وقاموا ببيع الفيلا التي كنت أتقاسم معهم السكن فيها متقاسمين ثمنها.. وبسبب رفض زوجاتهم وأزواج بناتي إقامتي معهم، خرجت إلى الشارع واتخذته مسكنا لي لشهور، قبل أن يتم تحويلي من طرف الشرطة إلى دار الرحمة ببئر الخادم''. ولم تنته معاناة فاطمة عند هذا الحد، حيث زارها أحد أبنائها يطلب منها التوقيع على شيكات على بياض ليقوم بسحب أموال منحة تقاعد زوجها المتوفى! أما عمي الطيب المنحدر من غرب البلاد، فقد راح ضحية زوجات أبنائه اللواتي رفضن رعايته، بحكم تقدم سنه وعدم قدرتهن على تحمل أعباء تغيير الحفاظات، وحتى بناته تحججن بظروف المعيشة الصعبة التي لا تسمح لهن برعايته. وللهروب من هذه المأساة العاطفية، قرّر الخروج من البيت العائلي الذي هو ملكه. وبعد رحلة بحث دام أسابيع، تم العثور عليه بدار العجزة، حيث رفض استقبالهم إلى أن فارق الدنيا وهو غاضب عليهم، حسب ما رواه أحد نزلاء دار العجزة. مدير دار المسنين بباب الزوّار ''المواطنون يجهلون قانون حماية المسنين'' أفاد محمد بلقاسم، مدير دار المسنين أو المعاقين بباب الزوّار، أن أغلبية المواطنين ليست لديهم معلومات كافية حول قانون حماية الأشخاص المسنين (صادر في 29 ديسمبر 2010)، ما يفسر ارتفاع عدد النزلاء على مستوى دور العجزة والمسنين. يقول بلقاسم: ''وزارة التضامن الوطني نصبت لجنة مهمتها تطبيق المادة 25 من القانون المذكور، والشروع في تجسيد مشروع دور رعاية يومية للمسنين، ستفتح مبدئيا على مستوى دور العجزة بالعاصمة قبل تعميمها على باقي المناطق لاحقا''. وتنص المادة على ''إعانة الأشخاص المسنين والمعدومين على مستوى المصالح البلدية، بالإضافة إلى إمكانية وضع المسنين، في وضع صعب أو دون روابط أسرية، لدى عائلة أو مؤسسة متخصصة أو هيكل استقبال في النهار''. كما تشير المادة إلى أن دور الرعاية اليومية تفتح أبوابها للمسنين المعدمين، والذين ليس لديهم من يكفلهم في البيت، لتفادي وقوع الحوادث المنزلية، أو سوء المعاملة التي يتلقونها غالبا من طرف مرافقي المرضى. وعن دور إدارة الدار في إعادة إدماج النزلاء في أسرهم، أوضح بلقاسم بأن أغلب الحالات التي تقصد الدار تتم بواسطة حملات الجمع التي تقوم بها مديريات النشاط الاجتماعي، مشيرا إلى أن الكثير من المسنين يتعمّدون إخفاء هوياتهم هربا من إعادتهم إلى عائلاتهم ''ما يدفعنا لإجراء تحقيقات اجتماعية معمقة بالتعاون مع كل بلديات القطر، من أجل تزويدنا بكافة المعلومات عن النزيل لإعادة دمجه للعيش في كنف أسرته''. الأخصائية النفسانية دواودة لنية ''المتخلي عن والديه يعاني عقدا نفسية أو مساومات الأزواج'' تقول الأخصائية النفسانية، دواودة لنية، إن الأشخاص الذين يتخلون عن آبائهم وأمهاتهم المسنين في دور العجزة عايشوا ذكريات سيئة مع آبائهم في الصغر، سواء من الناحية العاطفية أو المادية. وتضيف المتحدثة ''الآباء الذين يتعاملون بعنف مع أبنائهم، يولدون لديهم طباعا عدوانية، والأبناء الذين يتخلون عن آبائهم في دور العجزة، يصنفون في خانة الأشخاص الذين فقدوا ضمائرهم بسبب معاناتهم من عقد نفسية، مردها الأول إلى طريقة التربية التي تلقوها في الصغر وبالتالي يصبحون مع مرور الوقت لا يملكون أدنى شعور بالمسؤولية أو تأنيب الضمير''. ولا يفلت من العذاب النفسي الأبناء أيضا، إذ توضح الأخصائية دواودة لنية: ''الذين يتركون أولياءهم في دور العجزة، يتعرّضون لضغوطات نفسية، بفعل مساومات وضغوط من طرف زوجة الابن أو زوج البنت في حال تمسكهم برعاية أحد الوالدين، وتزداد حدة المساومات إذا لم تكن للوالد أو الوالدة مسكنا أو دخلا ثابتا''. وحسب المتحدثة ''الأبناء المتوازنين نفسيا والذين يملكون شخصية قوية وإيمانا بالله عزّ وجلّ، يأخذون قرارات عادلة، يستطيعون من خلالها التوفيق بين رضا الوالدين وتماسك عائلاتهم''.