يكاد كل باحث في تاريخ حرب التحرير، يمر عبر كتاب ايف كوريير الضخم، المليء بالأحداث المثيرة، والتفاصيل الدقيقة والحميمة، التي نقلها المؤلف من أفواه عدد من الفاعلين التاريخيين. وقد تحول الكتاب منذ صدور جزئه الأول سنة 1969 بعنوان ''حرب الجزائر...أبناء لاتوسان''، إلى مرجع أساسي، وحاز على شعبية واسعة من حيث تناوله لتاريخ الثورة من زاوية نقدية، تكشف كثيرا من الطابوهات التي ظلت عالقة، لم يكتبها التاريخ الرسمي، ولم يتناولها مؤرخونا، حتى المستقلون منهم. واللافت أن هذا الكتاب، ورغم احتوائه على كم هائل من المواقف النقدية تجاه الثورة، وتناوله لقضايا خطيرة، لم يتعرض للمنع ولا للمصادرة، بل وظهرت طبعة جزائرية منه سنة .1991 يعد ايف كوريير، صحفيا وليس مؤرخا، تناول تاريخ الثورة في شكل روبورتاج صحفي. وقدم لكتابه الروائي جوزيف كيسال، وليس أي مؤرخ، فالأخير معروف بصرامته العلمية وتدقيقه في قضايا الوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر، على غرار مارك فيرو، أو شارل أندري جوليان، أو شارل روبير أجيرون. كتب كوريير مؤلفه الضخم استنادا إلى شهادات جمعها بعد محاورته لعدد من الفاعلين التاريخيين الجزائريين، وبالأخص بلقاسم كريم، وأعمر أوعمران. كان كريم بلقاسم حينها معارضا للنظام الجزائري، فاصطبغت آراؤه حول الثورة بمواقفه السياسية المعارضة. وسوف تستمر هذه الميزة لدى عدد من الفاعلين السياسيين الذين يقرؤون التاريخ من زاوية السياسة، وليس من زاوية كونه لحظة علمية. حاول كوريير أن يسجل شهادات فاعل رئيسي مثل أحمد محساس، لكن هذا الأخير قرر التوقف عن العمل معه، بعد أن أدرك سوء نواياه، وميله الصارخ لجماعة مؤتمر الصومام مثلا. ولأن الكتاب ألفه صحفي، لا نعثر فيه على تدقيق علمي، وتناول موضوعي لتاريخ الثورة، لكن رغم ذلك تحول إلى مرجع أساسي. لذا نجده يوغل في الذاتية، والطرح غير الموضوعي. مثل كونه يميل لطرف دون آخر، ويؤجج الصراعات بين الفاعلين التاريخيين، ويظهر بعض من قادة الثورة، وبالأخص ما يسمى ''الباءات الثلاثة'' (وهم بلقاسم كريم، بوصوف عبد الحفيظ، وبن طوبال لخضر) في صورة شر مطلق أضر بالثورة ولم يخدمها إطلاقا، فروّج لفكرة ثلاثي شرير سلبي لا يؤمن بالمؤسسات، بقدر إيمانه بالصراع من أجل البقاء. ويظهر تاريخ حرب التحرير، في كتاب كوريير، حبيس صراعات تقليدية بين ''البربري'' و''العربي''، وصراع جديد بين تيار ديمقراطي مدني، وآخر محافظ وعسكري. أوقع كتاب كوريير حرب التحرير في قفص السرد الصحفي والشهادة غير المدققة علميا. والذين تعاملوا مع الكتاب بشكل ديمقراطي، لم يسمحوا بكتابة تاريخ موضوعي لهذه الثورة. ويتضح أن الجزائريين ما زالوا حبيسي الرواية الشفهية التي تشفي غليلهم، وتذر عليهم إحساسا بالنشوة، بدل الرواية العلمية الخالية من السجال العقيم، والتي تسقط على القارئ بكل صرامتها العلمية التي لا تقبل سوى النقاش الجاد، وتتفادى الصراعات التي تستند لخلافات سياسية في الأصل. كما أن الكتاب يقدم الثورة الجزائرية في صورة نكسات متتالية، وإخفاقات مأسوية، وهو عبارة عن النقيض الكامل للرواية الرسمية التي تقوم على التمجيد الأسطوري التي تدفع إلى النفور، ولا تثير أي اهتمام لدى القارئ. وكل من اقترب من الكتاب، إلا وخرج بإحساس عبثية الثورة وعدم جدواها، وهو الصدى الذي تتركه الكتب القريبة من الشهادات منه إلى التدقيق العلمي. فهل حان وقت كتابة رواية مضادة لرواية ايف كويير؟