هذه المرة بدأ العد العكسي لمصير الجزائريين. نحن أمام بوابة المستقبل بكل ما تعني هذه الكلمة من مسؤوليات كبيرة لإعادة الجزائر على سكة التطور، ولا يمكن أن نخفق هذه المرة في أخذ المنعطف كي لا نبيت في الحفرة. من الأفضل للجزائريين أن يجمعوا ما بقي فيهم من فطنة وذكاء وخبرة حياة، كي يتحاشوا الفخاخ التي سقطوا فيها منذ خمس وعشرين سنة وأوصلتهم إلى هذا الوضع الحقير الذي يعيشون فيه حاليا. لقد ارتكبوا يومها خطأ فادحا حين رأوا النظام يلتف على مطالبهم، ويتحالف مع العنف ضدهم، وظلوا يتفرجون على الأحداث وهي تقطف رؤوس مائتي ألف قتيل من خيرة أبنائهم، وتخرب ما يقارب مائة مليار دولار من بنيتهم الأساسية... وأوصلت الباقين على قيد الحياة إلى ''الحرفة'' وإشعال النار في أجسادهم، والغرق في حمأ المخدرات والكحول والجريمة، وأصبحت الجزائر العظيمة في مؤخرة البلدان. لا داعي لاعتبار هذه الحقائق مجرد ماض يمكن تجاوزه بسهولة، لأن الماضي، كما قلت سابقا، يمكن أن ينتظرنا في المنعطف ويجرفنا مرة أخرى إلى الهاوية. علينا وعي اللحظة التاريخية التي نعيشها، ونأخذ شؤون دنيانا بأيدينا، ونستعمل كل ما فينا من فطنة وخبرة تاريخية كي نصحح مسار الأحداث ونتجنب الوقوع في أخطائنا القديمة ونعطي الأولوية للمستقبل وليس للحسابات السياسوية العابرة التي قتلت الأمل في قلوب الجزائريين. لقد قلت دائما إن الشعوب التي لا تكافح من أجل إعلاء صوتها سيتم تزويره في صناديق الاقتراع، والشعوب التي لا تحارب الفساد من الطبيعي أن يأكل الفساد ثرواتها، والشعوب التي ترضخ من الطبيعي أن تُستعمر. هناك من يقول إن الشعب الجزائري ضحى كثيرا ولم تسفر تضحياته سوى عن هذه الكارثة التي يعيش فيها، وأعتقد أن هذا الكلام مجرد تثبيط للهمم وتشجيع الناس على اليأس، ذلك أن عظمة الشعوب تظهر من تضحياتها من أجل حماية وتطوير حياتها، ودون شك أن هناك خللا ما في هذه التضحيات كي يصبح المواطن ينظر للماضي على أنه أفضل من الحاضر الذي يعيش فيه، وهذا الخلل يبدو واضحا اليوم أنه نتيجة تركه لمستقبله بين أيدي قلة لم تحفظ الأمانة، وها هو يدفع ثمن المتفرج على الأحداث وهي فرجة دون متعة بل مُرّة. إنني لا أقول هذا للمنخرطين في العمل السياسي فحسب، وإنما لكل الجزائريين الذين هم أولى بأخذ زمام أمورهم بأيديهم. أقول هذا لأن هذه المسؤولية الجسيمة تحتاج فعلا إلى نضال من أجل القيام بها، تحتاج إلى تضحيات وتكافل ووعي بأهمية أن يكون لنا مستقبل... هذه المرة لا أحد بإمكانه قيادتنا على طريق المستقبل سوى الشعب.. والشعب الجزائري على كل حال برهن على عظمته في المنعطفات التاريخية الكبرى.. وهذا واحد منها ولعله الأهم في حياته.