لم تقيدني المؤسسة العسكرية ولن ينجح أي نظام في تشويش مخيلتي الإبداعية حاورته: أمينة جنان يقول الروائي ياسمينة خضرة أن انتماءه إلى المؤسسة العسكرية لم يمس بحريته كمبدع، لأنه ليس في مستطاع أية قوة أن تمس بسلطة الخيال التي يتمتع بها المبدعون، بل أن الإبداع كثيرا ما يزهر في مساحات الممنوع ليقهر الصمت، كما يتحدث في هذا الحوار الذي أجرته معه النصر عن طريق الأنترنيت عن وظيفته في المركز الثقافي الجزائري بباريس وقضايا ثقافية وإبداعية أخرى. ألا تقيد رئاسة المركز الثقافي الجزائري في فرنسا حريتك الأدبية كروائي مثلما كان يقيدها انتماؤك للمؤسسة العسكرية؟ لا شيء في هذا العالم يستطيع تلجيم الفكر. حتى في السجن استطاع الكثير من الشعراء ملامسة كل أشكال الحرية حتى في سجون الأعمال الشاقة أو الملاجئ، حرف الإبداع كان دائما حاضرا بقوة في كل مساحات الممنوع ليقهر الصمت. عندما كنت جنديا في الجيش عرفت كيف أخلق لنفسي عالما أدبيا خاصا لم يتمكن أي حذاء عسكري أو أي نظام من اختراقه أو تشويش أفكاري و مخيلتي الإبداعية. المركز الثقافي الجزائري يمثل الثقافة بكل أنواعها و من الجيد أن يتمكن كاتب من الإبداع أدبيا من أجل الثقافة و في إطارها مما يسمح له بالاستمرار دوما في الكتابة بطريقة أو بأخرى. عطاؤنا الأدبي و الثقافي يستحق التفاني و السفر من حين لأخر إلى خيالاتنا الحميمية ، و في كل مرة أقرر الكتابة أجد دوما الظروف المثالية الملائمة للإبداع. تحضر الأساطير بقوة في بعض رواياتك و خاصة في رواية " امتياز العنقاء" وروايتك الأخيرة " مملكة البؤس"، برأيك ماذا تضيف الأساطير للإبداع الروائي؟ الأساطير مهمة جدا في الإبداع الروائي الذي يهتم بالتراجيديات الإنسانية فهو يعتبر مرجع و مصدر إلهام يضج بالمعاني في الضرورية للتكوين الأدبي ، الميثولوجيا وجهتني لأستقي فلسفتي في الحياة من رمزية الأسطورات و ربما يكون هذا أيضا بفضل القصص و الحكايات الخرافية التي غذت مخيلتي في الطفولة مثل قصة " اونتيقون " و أشعار مفدي زكريا التي رافقتني في مخيلتي الطفولية و وجدت فيها فيما بعد الكثير من الإجابات الأساسية على الأسئلة التي يطرحها الكاتب بداخلي و أكثر ما يثير إعجابي في القصص الأسطورية هو الحجم الكبير الذي تعطيه للإنسان و للأشياء من حوله و طريقة تجسيدها للتعقيدات البشرية في مواجهة الاختلاف و التعدد الكبير للكون. في رواية " امتياز العنقاء " شخصية اللاز تروي لفلان حكاية خرافية في قلب قصة الرواية (حكاية الشيخ و البرتقال) التي يفك مع نهايتها لغز هويته. ما هي برأيك العلاقة التي تربط بين التقاليد الشفوية و تأصيل جذور الهوية لدى الأشخاص و الشخوص؟ " امتياز العنقاء " نص غير مكتمل بل هو نص فاشل، كتبته سنة 1979 في تيندوف ، و في تلك الفترة لم أكن أملك الحجج الكافية لحياكة حبكة رواية و مع ذلك فقد حددت لنفسي سقفا عاليا جدا لمشروعي الأدبي و بالنظر إلى إمكانياتي الأدبية فلم أكن موضوعيا. أما بالنسبة لعلاقة الثقافة الشفوية بالأدب، فأنا اعترف أنني لم أفهم قط وظيفة الرصيد الشفوي في الأدب، فماذا يبقى من الثقافة الشفوية في الكتابة الأدبية؟ أنا أحاول أن أكون متيقظا من هذه الاختصارات المدعية لرؤى فكرية تتجاوزها، قد نتحدث عن الثقافة الشفوية لدى المداح، الراوي، المنادي و لكن في الكتابة لا نستطيع الحديث عنها بهذا الشكل. بعض شخوص رواياتك (فلان، نافع، وليد، جوناس...) يعيشون أزمة مع هوياتهم التي يرون كيف تسحق من قبل الآخرين، هل هناك ما يربطهم ب " الحراقة"؟ في رواياتي، أنا أتساءل دائما عن ضعف البشرية و أبطالي هم قبل كل شيء أشخاص عاديين و ضعفاء، الهدف منهم ليس تجسيد الاضطرابات الاجتماعية و التاريخية فهم مجرد ضحايا وجدوا أنفسهم في قلب الأحداث المتقلبة، كما أنهم أول من يتفاجؤ بتواجدهم في قلب النص كأبطال... فلان هو شخص فقد جذور هويته، نافع شخص غافل و يونس إنسان غير حازم ، الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو حتمية الأحداث، أي اقتحام الشك لحياتهم. عندما يظهر الشك في حياتنا يصبح هو المحرك الأساسي لها و يصبح مع الوقت متجذرا فينا إلى حد إلغائنا و يقرر بتعسف مصائرنا. تعود في رواية " فضل الليل على النهار " كما في رواياتك الأولى لتاريخ الجزائر، هل تحاول أن تخلق نوعا من المقارنة أو التحليل المتوازي بين الجزائر المستعمرة و الجزائر الحالية؟ ليس هناك أي توازي أو مقارنة، فجزائر اليوم مختلفة تماما عن الجزائر المستعمرة ، جزائر الاحتلال هي جزائر الشك في ظروف الحرب ، لكن الجزائريين في ظل هذه الظروف كانوا يعيشون بوعي كبير، كانوا يعرفون أنهم مقهورون بقوة تتجاوزهم و أنهم مستغلين ظلما من الاستعمار الذي يحاول بالإضافة على تفقيرهم سلبهم ثقافتهم و معالم هويتهم ، و هذا الوعي هو الذي دفعهم للدفاع عن حقوقهم وعن وجودهم الشرعي على أرضهم بالسلاح. بينما تتساءل جزائر اليوم عن ذاتها، إلى أين هي ذاهبة و لماذا لا تتقدم رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها أبناؤها ؟ و أعتقد أن الشك هو الذي يقلص من قدراتها و يسيء لالتزاماتها و يضاعف إحباطها، الشك بالنسبة لي هو الذي يفصلنا عن أساطيرنا ويخلق نوعا من الانفصام بيننا و بين ماضينا، فلا توجد أمة في العالم تستطيع النهوض بنفسها من دون الأساطير و لا شباب يستطيعون تأكيد هويتهم إذا لم يقفوا على مقدساتهم التاريخية حتى و لو كانت خرافية. في اللقاء الذي جمعك مؤخرا بجمهور قسنطينة، تحدثت عن قصة جدك الذي لم يتغلب من الإهانة التي شعر بها في الجيش عندما كان تحت امرة ابنه، قصة الشيخ و البرتقال التي نجدها في رواية " امتياز العنقاء" هل هي نفسها قصة جدك؟ لا ، قصة قطف البرتقالة الممنوعة يشير إلى عبثية موقفنا تحت حكم الاستعمار، لقد قلت في اللقاء أنني لم أتمكن من التعبير بشكل جيد عن ما كنت أريد قوله في " امتياز العنقاء" ، كنت شابا و دون خبرة و لم أكن أملك وسائل أدبية في مستوى طموحاتي. أما فيما يتعلق بجدي فهي قصة شيوخنا و علامتنا و شعرائنا و كل الذين يحملون بداخلهم ثقافتنا و وعينا والذين داس التاريخ على كرامتهم . روايتي " فضل الليل على النهار" و " مملكة البؤس" يشهدان على مرونة لغوية كبيرة و على قدرة عالية في تغيير أسلوبك من رواية إلى أخرى، ما الهدف من هذا التغيير و التلاعب اللغوي المستمر؟ أحب اكتشاف قدرتي على المغامرة في فخاخ الأدب، وتغيير أسلوبي اللغوي يشعرني بالارتياح و يساعدني على التجدد و التطور و إعادة البحث عن ذاتي في كل مرة ، فالأدب بالنسبة لي لا يشكل مشروعا تجاريا و لكنه يخلق فيّ رغبة دائمة في التجدد و التساؤل عن معنى و هدف ما افعله ، فعندما نعرف كيف نوقظ الشك فينا نستطيع أن نحوله على رحلة رائعة للبحث عن ذاتنا. ما رأيك في الكتاب الجزائريين الشباب أمثال سليم باشي و نينا بوراوي؟ لدينا كتابا رائعين و لكن ليكونوا أكثر روعة علينا أن نحترمهم ، و إلا فسيتموقعون داخل أدب الاحتجاج و لن يخرجوا أبدا من دائرة أوهامهم. من الصعب على كاتب جزائري أن يفرض نفسه في عالم الأدب الصعب أين يقرأ القارئ أولا ليحلم. إذا رفضنا كتابنا فسينطفئ عطاءهم. هل تنوي العودة للجزائر للعيش و الاستقرار فيها نهائيا؟ أي علاقة لديك مع الصحافة الجزائرية؟ بلا شك، سأعود يوما للجزائر، فلقد بنيت لي منزلا في مدينة وهران. و فيما يخص علاقتي بالصحافة الجزائرية، فهناك صحفيين يقدرونني و آخرون لا، و الكثيرون منهم لا يعرفونني و لا يقرؤون لي و يفضلون تجاهلي وراء قوالب نمطية جافة . و لكن رحلتي الصغيرة في الجزائر التي قادتني إلى العاصمة، عنابة و قسنطينة طمأنتني بأن القارئ الجزائري ليس غبيا و أن الافتراءات التي تثار ضدي لم تشوش فكرة قرائي عني . و بالنسبة لي أيضا، أنا لا أتوقف أمام الإدعاءات ، أنا كاتب إذا فأنا أكتب و كفى.