رافقت المقاهي الأدبية، كما ظهرت في الغرب، مختلف الحركات الفكرية الكبرى. سارت مع نظام حياتي واجتماعي جديد، قام على الألفة والمؤانسة الحضرية المرتبطة بالمدن والحواضر الكبرى. وقد ارتبط المقهى بأولى بوادر الحداثة، لما اكتشف الناس لذة شرب القهوة التي انتقلت من الشرق إلى الغرب بواسطة التجار الفرنسيين، كإحدى خطوات الانفتاح على الآخر، ضمن إيكزوتيكية تراءت للمثقفين والفنانين لاحقا كفعل شافي من مساوئ المدن الكبرى. ومع موضة ارتشاف القهوة، كانت تمر الأفكار، وتتولد الأحلام الكبرى. تأسس أول مقهى أدبي في فرنسا مع بداية عصر الأنوار، وسمي مقهى ''بروكوب''، أسسه فرانشيسكو بروكوبيو سنة 1686 في باريس. كان يتردد عليه جان جاك روسو، ديدرو وفولتير. والثورة الفرنسية نفسها خرجت من مقاهي باريس التي كانت عبارة عن فضاء لنسج المناورات السياسية. ويقال إن الأنسيكلوبيديا هي نتاج النقاشات الفكرية التي كانت تدور في المقاهي الأدبية. وقد ارتأى المثقفون ارتياد المقاهي، لعقد اجتماعاتهم، وتنظيم ندواتهم ومجالسهم الأدبية والثقافية والفنية، ليس فقط بغرض التحاور وتبادل الأفكار مع المثقفين أمثالهم، بل لأنهم وجدوا في مجلسه وفضائه ما يتيح لهم رؤية شاملة للمجتمع في حركيته وتحولاته الدقيقة والبطيئة. وجلسوا في المقاهي بغرض تقصي أخبار الناس، والتعرّف على همومهم، واكتساب معرفة بأدق تفاصيل المجتمع. والجلوس في المقهى كان يعطي المثقف معرفة بالحياة والمجتمع. كان الجلوس في المقهى يمنح المثقفين رؤية شاملة عن الخارج. فمن المقهى يمتد النظر إلى شارع مترامي الأطراف بتفرعاته، حيث تكثر حركة الناس.. ومن المقهى يشرع الكاتب في التأمل، ويخوض في التفكير في أحوال شخصيات يأخذها من الواقع، ويحوّلها كتابة إلى شخصيات تسكن قصصه ورواياته. كان المقهى الأدبي فضاء للمحاورة، لكنه سرعان ما تحوّل إلى فضاء للكتابة كذلك، لما أخذ جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، يكتبان بمقهى ''لي دو ماغو'' بباريس. وكان للنخب الجزائرية، قبل الثورة، مجالسها الأدبية. ومن بين الأمور التي أثارت اهتمام الشاب فرحات عباس، وشدت انتباهه، لما جاء إلى الجزائر العاصمة لاستكمال دراسته في عشرينات القرن الفارط، تلك النقاشات الفكرية والأدبية التي كانت تجري في المقاهي، فأصبح من روادها، وفيها تعلم الجدل والمحاورة السياسية. لكن الثورة لم تنبثق من المقاهي، فالقمع الاستعماري جعل من فكرة مناقشة الثورة في مقهى بمثابة ضرب من الجنون. كانت المناقشات بين القادة تجري في غرف خلفية، بعيدة عن أعين مخبري الشرطة الاستعمارية. بعد الاستقلال عادت تقاليد المقاهي الأدبية.. من اللوتيس إلى طانطونفي.. ورافقت الأحلام الكبرى لما بعد الكولونيالية.. الاشتراكية والثورة الزراعية..الخ، لكنها كانت مجرد مجالس دون تأثير، تدور فيها نقاشات ظلت هامشية، فعجزت عن التحوّل إلى منظومة أفكار مؤثرة في المجتمع. كانت عبارة عن مجالس نخب منغلقة على نفسها، على خلاف مجالس المثقفين في الغرب. هذه الأخيرة كانت عبارة عن مجالس ديمقراطية منفتحة على الناس وعلى وسائل الإعلام. وتغير الحال في السنوات الأخيرة، حتى أن العصر الحالي، ليس عصر مقاهي أدبية، ولا مجالس. فالأدباء تفرقوا، وتبعثروا، بعد موت الإيديولوجية، فلا شيء أصبح يجمعهم حول طاولة جانبية في مقهى قليل الإضاءة، يناقشون أفكارا يؤمنون بها، ويحللون محتويات كتب قرأوها.. والعصر الحالي أصبح عصر الفرد، وليس عصر الجماعة.. عصر الخلاص الذاتي والنجاح الفردي، والمراجعات الفكرية. [email protected]