المقهى؟! هو ذاكرة مكان، لكن أيضا ذاكرة ناس، وذاكرة لحظة متحولة ومتغيرة يتجلى فيها التاريخ اليومي لهموم الناس، لأفراحهم وأتراحهم، ولذلك الفيض من الاهتمامات والرغبات والأحلام والانكسارات· في الماضي، إبان نشأة الحركة الوطنية، كان الجزائريون يجدون في المقهى مكان للقاء، للتفكير في الطريق المؤدي للحرية، كان مكانا لتمرير الوعي الوطني إلى الناس الذين اعتنقوا المسألة الوطنية كفعل تحرر وانتقال من حالة العبودية إلى حالة الانعتاق·· في مكاني الأول، مسقط الرأس، كانت مقهى الهلال نقطة استقطاب لأولئك الناس القادمين من أطراف المدينة، كانت الهلال تحتل قلب ساحة الطحطاحة، الوجه العربي للمدينة·· مدينة العرب العتيقة كما كانوا يسمونها·· كانت جدرانها مزينة بصور المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات المشارقة من أمثال محمد عبد الوهاب واسمهان وفريد الأطرش وتحية كاريوكا، وكان الرواد يجلسون أمام الطاولات الخشبية داخل المقهى وعلى الطيراس، يرتدون الجلابيب، والعمامات الصفراء والكنابيش البيضاء، والبرانيس الغامقة والسوداء، ويرتادون السراويل التقليدية ذات شكل اللوبياء، يتكيفون سجائر الشعرة، ويتناولون الشمة، تقابل المقهى الرئيسي، مقاهي البوسفور التي ينطلق منها صوت القصبة والشيوخ العظام، ممثلو أغنية الفن البدوي·· ساحة الطحطاحة كانت تتحول كل أيام الأسبوع إلى سوق زاخر، مليء بالألوان وغاص بالأصوات·· نحن هنا أمام مهرجان حقيقي يتعانق فيه الكلام العادي بالسياسة ويتجاور فيه الفن بالثقافة الشعبية·· يجلس الفنانون التروبادور في قلب الساحة، يتحلق حولهم الشباب والكهول والشيوخ، ينصتون إلى الملاحم الشعبية، من حكايات سيف ذي يزن، إلى بطولات عنترة بن شداد وانتهاء بمغامرات بني هلال· كانت مقاهي ساحة الطحطاحة بمثابة الخلايا النائمة للوطنيين الذين كانوا يتعاملون معها كأشكال جديدة لنشر الوعي الوطني، ولتأهيل الناس إلى اللحظة الحاسمة، لحظة الثورة·· الشيخ المدني، وهو من الوجوه المؤسسة للأغنية البدوية كانت انطلاقته من مقاهي الطحطاحة، كان ينشد غناء ديوان شاعر بني عامر مصطفى بن ابراهيم وأشعار الخالدي· كانت المقاهي التعبير المكثف عن تحصن الثقافة المحلية بروحها وتاريخها وكوجه النقيض للثقافة الكولونيالية المهيمنة والتي أسست لنفسها مؤسساتها وبنياتها وأشكالها في الضفة الأخرى لمدينة سيدي بلعباس، وكانت هذه الضفة الأخرى متمثلة في المركز، مركز المدينة المؤسسة من طرف اللفيف الأجنبي، كانت محاطة بالثكنة العسكرية للفيف الأجنبي وبالبنوك الناشئة وبالكنيسة والمسرح والمقاهي ذات الطراز العمراني الكولونيالي الحديث·· فضاء كانت تتنازع عليه ثقافتان متضادتان ومتصارعتان ومتحاربتان حول رمزية عميقة ومتجذرة منتجة لرساميل ذات دلالات متمايزة ومتواجهة·· ومثلما كانت الحرب بين الفضاءات، كانت أيضا بين المدرسة الكولونيالية والجامع العربي، وبين الطب الحديث والطب التقليدي الشعبي العربي·· كانت مقاهي المدينة/ المركز نسخة طبق الأصل عن مقاهي باريس، كانت إعادة تمثيل للمكان الآخر على أنقاض المكان المسلوب، تعود الأسماء لتشكل التعبير الجديد والجلي للأسماء المحتلة، وذلك من خلال التسميات التي كانت تطلق على المقاهي، مثل مقهى باريس، مقهى لومبير، مقهى فرساي، حالة من الإيهام، والإستعادة التاريخية والجغرافية للأمكنة، كان ذلك تجسيدا للإيديولوجيا الكولونيالية عبر النسيج الغريب والمستولى عليه بالقوة والعنف الكولونياليين·· لو عدنا إلى الصور، والكارتبوستلات لتلك الفترة، للاحظنا العملية العجيبة لنقل المكان والمناخ من فضاء إلى فضاء آخر مستلب وإصطناعي لكن يتحول الإصطناع كنسخة مكررة إلى تمثل شبه وهمي للمكان الحقيقي·· بعد الإستقلال وجدت المدينة نفسها في مواجهة ذلك الإرث الكولونيالي، لم يسقط الجدار بين الفضاءين السابقين، بل استمر الاختلاف واستمرت المقاهي طيلة الستينيات والسبعينيات على تلك الحالة القديمة، وما بدأ يحدث هو تلك التغيرات على مستوى التسميات، فتم استبدال الأسماء القديمة بأسماء تدل على المعطى التاريخي المرتبط بالشرعية الثورية، مثل مقهى باريس التي تحولت إلى مقهى الصومام، ومقهى فرساي التي تحولت إلى مقهى الإتحاد، ومقهى لومبير التي تحولت إلى مقهى تسالة، نفس معركة الأسماء المستعارة والبديلة عرفتها الشوارع والأحياء، التيار الذي تحول إلى وادي الذهب وفومبيطا التي أصبحت حي العربي بن مهيدي، وشاركو الذي أصبح مسمى بنهج علي بن طالب·· عاد التراث الجديد الثوري والإسلامي ليحتل المواقع الكولونيالية المحررة··· في السبعينيات والثمانينيات، تحولت سيدي بلعباس، إلى مدينة مقاهي بامتياز، مقاهي دائما زاخرة بالرواد وتوزعت المقاهي إلى فضاءات تعكس التقسيم الإجتماعي والثقافي للفئات الإجتماعية المتنوعة والجديدة، وتعكس الألوان الجديدة التي اصطبغت بها المدينة في حقبة ما بعد الكولونيالية ولحظة الإستقلال الناشئ·· فمقهى الإتحاد المقابل للساعات الأربع، حافظ على شكله العمراني الكولونيالي، وكان ملتقى للشباب من الثانويين والكوادر الإدارية والناشطين الثقافيين والإجتماعيين·· كان صاحب المقهى من الأثرياء الجدد الحداثيين، وكان حريصا أن يكون الإتحاد واجهة للتفكير الجديد وللسلوك الحداثي، ولقد انعكس ذلك على انتقائه للنوادل، وللديكور ولطريقة الإضاءة التي تثير المقهى من الخارج ومن الداخل·· كنت أذهب إلى الإتحاد كل مساء، وهناك كانت صداقاتي الجديدة مع مجموعة من المبدعين، والمثقفين الشباب، مثل أحمد مهاودي شاعر باللغة الفرنسية، وبشير عثمان الذي كان مهتما بالفكر الفلسفي الألماني والتحليل النفسي، ورزوف المهتم بالنقد الأدبي والرواية الأوروبية وقادة بن يمينة المسرحي والمهتم بفن العرائس والفرافوز وماحي رجل المسرح والحكواتي·· كانت تلك الصداقات الجديدة تتكىء على المناخ الثقافي الذي كان يوفره لنا مثل مقهى الإتحاد، ثم سرعان ما كانت مقاهي جديدة دخلت مجال المنافسة مع الإتحاد وعملت هي بدورها على استقطاب تلك النخب الناشئة·· لكن سرعان ما بدأت تلك المقاهي بالتراجع أمام التحولات العميقة التي بدأت تعرفها المدينة من منتصف الثمانينيات·· والتي تزامنت مع صعود حركة الإسلام السياسي الشعبوي وظهور فئة من الأثرياء الهجناء لتحل محلها مقاهي تمثل نوعا آخر من الثقافة قائمة على قيم الربح السريع والوصولية والإنتهازية الإجتماعية، وكانت هذه القيم متجلية حتى في طريقة التكالب على إنشاء المنازل المسيجة وذات الطوابق الشاهقة والبشعة والأحياء الخالية من كل جمالية حيث تحولت في ظل هذه الثقافة قاعات السينما إلى بيوت بائسة للفيديو، والمكتبات إلى محلات للألبسة، والأكل السريع والحانات إلى مقاهي صارخة الذوق المبتذل·· ثم انشطر المركز إلى مراكز ضمن الأحياء الدرتوارات وظهرت فيها المقاهي كالطحالب لكن بدون شخصية مقاهي كالحة، صافية ومجردة من تلك الروح التي كانت تضيف إلى المكان جمالية ومعنى·· إنها مقاهي اللامعنى واللاروح، إنها مقاهي الثرثرة العقيمة والصفقات التجارية المبتذلة، والتعاليق الجوفاء على الحالة السياسية المتدنية والمرتبطة عضويا بالنزعة الإنتخابوية والولائية الممثلة للفئات العابدة للريع والوصول السريع والتهافت على الكسب غير السليم·· ثم أيضا برزت إلى السطح ظاهرة الصالونات العائلية لكنها في الحقيقة هي تعبير على ذلك التحايل الإجتماعي من أجل نسج علاقات مع الجنس الآخر··· وأيضا مقاهي المقاولين الجدد الذين صاروا يشكلون وجه المجتمع الباحث عن وضع جديد لكن وفق أسلوب مهترئ ونمط حياة يعتمد على احتقار القيم الأصلية المشجعة على العمل·· والآن؟! ما الذي يمكننا انتظاره من المقاهي؟! طبعا، المقهى هو مؤشر على ديناميكية المجتمع وحالات صعوده وانحطاطه، لقد تحول خلال السنوات العشرين الأخيرة إلى مكان للإستهلاك السريع بدل أن يكون فضاء للقاءات الحية، وفضاءات لتطور النخب والنخب الناشئة، وما هو منتظر أن يتوفر هذا الوعي بأهمية المقهى ليكون رافدا من روافد الوعي الجديد لدى الشباب بشكل خاص، وليكون فضاء يساهم في تنشيط وتجديد الفضاء الكبير والمتنوع لما يمكن تسميته بالمجتمع المدني·· فماذا لو فكرنا بشكل استراتيجي لإعادة المكان الحقيقي للمقهى حتى يلعب دوره الثقافي والإجتماعي في الرقي بالمدينة، والأحياء كدلالات للمضي بالمقهى إلى الأمام؟!