ماذا لو زار الروائي النمساوي ''روبرت موسيل'' مكتبة الكنغرس الأمريكي، التي يعتبرها البعض أضخم مكتبة في العالم لكونها تضم 5 ,34 مليون كتاب؟ كيف سيكون رد فعله إذا افترضنا أن زائر هذه المكتبة يقرأ كتابا واحدا كل أسبوع. فكل ما يستطيع قراءته منذ بلوغه سن العاشرة إلى غاية مماته، بعد بلوغ القرن، لا يزيد على 4600 كتاب؟ وهو كما تعلمون عدد ضئيل جدا مقارنة بعدد الكتب التي تزخر بها المكتبة المذكورة. لقد اندهش الروائي المذكور في روايته الموسومة ''الإنسان دون صفات'' التي كتبها في ,1913 من عدد المراجع المتوفرة في مكتبة الإمبراطورية النمساوية القديمة والتي بلغت 5, 3 مليون مرجع. ربما سنضطر إلى البحث عن بديل لصفة الدهشة لوصف حالته لو امتد به العمر إلى العصر الرقمي، وشهد بأم عينيه الفيض الهائل من المعلومات التي تتدفق من محركات البحث، مثل غوغل وياهو والمواقع الإلكترونية المختلفة والشبكات الاجتماعية الافتراضية. إنه عصر التخمة المعلوماتية التي غمرت الأشخاص والمؤسسات، يقول البعض. لكن الباحثة ''أنياس سنت جود''، من جامعة ستانفود الأمريكية لا تتفق مع هذا الرأي قط، وقد عبرت عنه في كتابها الموسوم: ''من غتنبرغ إلى زوسكربرغ'' بالقول إن لكل عصر تخمته الإعلامية. فالإحساس بأن حجم المعلومات يتجاوز قدرة الفرد على المتابعة والاستيعاب، لازم البشرية منذ العصر اليوناني إلى غاية اليوم. وأكدت أن الشعور بغزارة هذا الفيض الإعلامي قد توطد ما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر. لقد شهد هذان القرنان تغيرات كبرى واكتشافات علمية و''ثورة'' تكنولوجية مزدوجة: ثورة الصحافة والبريد، فتضاعفت المعلومات المتداولة خلال هذه الحقبة من التاريخ. هذا إذا استثنينا المطبعة التي منحت الكتاب أجنحة. ولم تتردد هذه الباحثة في تقديم أوجه التشابه بين الرسائل النصية القصيرة التي نتبادلها اليوم عبر هواتفنا المتحركة وتغريدات شبكة تويتر، والمراسلات البريدية التي كان يتبادلها آلاف البشر من مختلف بقاع العالم، وهم لا يعرفون بعضهم البعض. إن التشابه لا يكمن في العدد أو الشكل، بل في الجوهر: أخبار متنوعة تساير إيقاع الحياة، بعضها يحكي عن أحداث فعلية وبعضها الآخر من نسيج الخيال. وتختتم الباحثة المذكورة مرافعتها لصالح التضخم المعلوماتي بالقول: من الأجدى معرفة كيف كان الناس في القرنين المذكورين يديرون كثرة المعلومات وتدفقها. لقد كان الفيلسوف العقلاني أمنويل كانط يتبرم من كثرة الكتب التي لا تشجع على قراءة كل ما هو مطبوع فحسب، بل تعزز القراءة السطحية التي تعد مشتل الفكر غير النقدي. لعل التبرم ذاته نلمسه اليوم لدى الكثير من المثقفين وأصحاب القرار، والسبب في ذلك يعود إلى الاعتقاد بأن كثرة المعلومات لا تؤدي بالضرورة إلى زيادة المعرفة في المجتمعات المعاصرة، لجملة من الأسباب، لعل أبرزها يكمن في القول إن الغاية الأساسية من التزايد المذهل لعدد ''مصانع المحتويات'' في شبكة الأنترنت ، مثل Demand Media أو Answers.com، ليس تقديم المعارف، بل إنتاج المعلومات وفهرستها في محركات البحث لرفع عدد زوار هذه المواقع لجني المزيد من عائدات الإشهار. وتزايد حجم المعلومات لا يعني بالضرورة تعدد المصادر بالنسبة للجمهور أو مستخدم الأنترنت أو الهاتف الذكي. فالبحوث الأنثربولوجية تؤكد أن الناس يظلون على اتصال بالمصادر التي تتطابق مع قناعاتهم وأفكارهم، ونادرا ما ينفتحون على المصادر التي تخالفهم الرأي، وهذا يعزز حالة التعصب والتشدد وحتى التطرف. وأخيرا، إن المعلومات تتطلب عُدّة متكاملة حتى تتحول إلى معرفة: أدوات لغربلتها واستخلاص الموثوق فيها، وكفاءات من الخبراء الذين يستنبطون المعنى منها، وجيش من العاملين الذين يجتهدون من أجل تسييقيها وتبسيطها للفهم بأشكال تعبيرية وتوضيحية مختلفة.