أعتقد ونحن نعيش الذكرى الخمسين لاستعادة السيادة الوطنية، أنه علينا أن نبدع مرة أخرى الوطنية المحررة. فالوطنية التي حررتنا من الاستعمار في شكله المباشر لم توفّق في تحريرنا من القابلية للاستعمار ومن القابلية للاستبداد، بل يمكنني أن أجزم أن القابلية للاستعمار من القابلية للاستبداد، ولا يمكن التخلص من الاستعمار دون التخلص من الاستبداد. ولا يمكن التخلص من الاثنين من دون حرية. وينبغي التوضيح أن ''الاستقلال'' يقصد به عادة الاستقلال عن الاستعمار، ولكن الاستقلال أكبر من ذلك بكثير، فهو شرط السيادة ولا سيادة من دون استقلال. من دون الدخول في الكثير من التحليلات السياسية النظرية والتجريدية دعنا نأخذ مثلا بسيطا. لقد استغربت أن أغلب أصدقائي لا يجدون حرجا كبيرا في اعتماد عنوان إلكتروني يجعلهم وكأنهم تابعين لفرنسا أو يعيشون فيها وهو .fr ربما المسألة بالنسبة للكثيرين لا تعدو أن تكون مسألة قلة حيلة أمام عدم توفر البديل عند استخدام اللغة الفرنسية على ال yahoo أو ال msn أو حتى google. ذلك يعكس في كل الأحوال تبعية واعية أو غير واعية اختيارية أو عاجزة. طبعا قد يقول قائل هذه من التفاصيل التافهة، لأن حب الوطن مسألة أقوى من هذه التفاصيل، ولكن لماذا لا يتساءل الواحد منا: لماذا لا تمنح المواقع باللغة الفرنسية الاختيار في اعتماد بدائل أخرى ومنها.dz أوحتى . com فقط؟ الواقع سواء بدأنا من تفاصيل الأمور أو من المسائل الأساسية ومنها اتخاذ القرار فالأمر سيان. نعم هناك ما يقال دائما في التحاليل عن أن لفرنسا قدرة على التأثير على القرار الجزائري حتى في المسائل السياسية الأساسية. البعض يتحدث في هذا الأمر بمنطق الواقعية، من خلال القول إن لفرنسا مصالح كبيرة في الجزائر وبالتالي فهي تعمل على توظيف ما لديها من قدرة تأثير لحماية مصالحها وأن ضعف الشرعية وضعف السند الاجتماعي للسلطة وحاجتها الماسة لمناخ خارجي إيجابي وغير ضاغط يسهّل هذا التأثير وربما يجعله قويا وغير قابل للمواجهة والتحييد. والبعض يتحدث في الموضوع من منطق المؤامرة وهو أن ''اللوبي الفرنسي'' قوي في الكثير من دواليب الإدارة ودواليب الاقتصاد وتعمل فرنسا بشكل منهجي على استدامته. وفي الحالتين النتيجة واحدة. استقلال القرار نسبي جدا والمؤثرات الخارجية قوية. من غير تقديم الكثير من الأرقام عن التجارة الخارجية وحجمها مع فرنسا ومن غير التمعن في الاستراتيجية الفرنسية تجاه الجزائر وفي إدارة مختلف الحكومات الفرنسية للعلاقة مع الجزائر ومن دون الحديث عن عدد الجزائريين الذين يحملون الجنسية الفرنسية إضافة للجزائرية أو الجزائرية إضافة للفرنسية، وخاصة من المسؤولين في بعض المؤسسات والإدارات، ومن غير التوقف مطولا عند التاريخ وعند إصرار فرنسا على تمجيد الاستعمار ورفض الاعتراف، وأقل من ذلك الاعتذار، عما اقترفته من جرائم، على الرغم من أنها موثقة، وحتى من دون التذكير بما نهبته فرنسا من ثروات الجزائر بدءا من ''كنز القصبة'' ومبالغُه معلومة لمن أراد ''النضال'' من أجل استرداده، من غير كل هذه المسائل الهامة ولكن التقليدية ينبغي القلق كثيرا على استقلال البلاد. بعد خمسين سنة ما زالت الجزائر تنشر اللغة الفرنسية كما لم تنشرها فرنسا طيلة قرن واثنين وثلاثين سنة من الاستعمار، إذ ما زالت أغلب إدارات الدولة تعمل باللغة الفرنسية وكل المؤسسات الاقتصادية لا تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الغالب الأعم ولا حرج لكبار المسؤولين في العجز عن استخدام لغة أخرى غير الفرنسية، بل ما زالت الخزينة العامة تمول إذاعة ناطقة بالفرنسية وقناة تلفزيونية موجهة للهجرة وما زالت عشرات الجرائد تصدر باللغة الفرنسية، بل وما زال الصراع يعلن عن نفسه بين الفينة والأخرى بخصوص تدريس اللغة الفرنسية وما زال ''لوبي'' منظم يعمل على ربط فشل المنظومة التربوية باللغة العربية وليس بقصور السلطة وليس بالصراع المتواصل والضغوط المتواصلة، بل ما زالت الشوارع شاهدة على أن الاستقلال ما زال في حاجة لإبداع وطنية جديدة مختلفة عن وطنية التحرير من الاستعمار المباشر، إبداع وطنية الحرية والتحرر من القابلية للاستبداد لأنها شرط التخلص نهائيا من الاستعمار. [email protected]