كان هذا الخلاف كلّه بين أهل الكتاب جميعًا ''من بعد ما جاءتهم البيّنة''، فلم يكن ينقصهم العلم والبيان، إنّما كان يجرفهم الهوى والانحراف، رغم أن الدّين في أصله واحد والعقيدة في ذاتها بسيطة. ويتلخّص هذا الدّين في العقيدة الخالصة في الضمير والعبادة لله وحده، ثمّ إنفاق للمال في سبيل الله. فمن حقّق هذه القواعد، فقد حقّق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب، وكما هو دين الله على الإطلاق. دين واحد وعقيدة واحدة، تتوالى بها الرسالات ويتوافى عليها الرسل.. دين لا غموض فيه ولا تعقيد، وعقيدة لا تدعو إلى التفرّق ولا خلاف، وهي بهذه النصاعة وبهذه البساطة وبهذا التيسير!! فأين هذا من تلك التصورات المعقّدة وذلك الجدل الكثير؟ اختلاف النّاس سنة الله في خلقه كيف توصل الإسلام إلى نزع الأحقاد الدينية من عقول متبعيه؟ توصل إلى ذلك بطريقة لم نسمع بها إلاّ منذ أمد قريب، بعد أن وقف علماء الإنسان على أسرار النفس الإنسانية، وكيف أنّها تختلف من الحكم على الأشياء. ولهذا، صرّح القرآن الكريم بأن اختلاف النّاس في معتقداتهم من سنن الله في خلقه. قال تعالى في سورة هود: {ولو شاء ربُّك لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم} هود 118 .119 ولو شاء الله لخلق النّاس كلّهم على نسق واحد وباستعداد واحد، نسخًا مكرّرة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض، وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الّذي استخلفه الله في الأرض. وقد شاء الله، جلّ جلاله، أن تتنوّع استعدادات هذا المخلوق واتّجاهاته، وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه، وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار، ويجازي على اختياره للهدى أو للضلال. هكذا اقتضت سنّة الله وجرت مشيئته، في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار وأن يلقى جزاء منهجه الّذي اختار.