إنّ المتابع لسيرة الفترة الأخيرة في حياة الصّحابة الكرام، ليحس بقوّة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النّفوس النّبيلة، يحس التغيّر الكامل في تصوّرهم للحياة حتّى لكأنّ الرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، قد أمسك بهذه النّفوس فهزّها هزّة نفضت عنها كلّ رواسبها، وأعادت تأليف ذرّاتها على نسق جديد، كما تصنع الهزّة الكهربائية في تأليف ذرّات الأجسام على نسق آخر غير الّذي كان. والمعنى باختصار أنّه، صلّى الله عليه وسلّم، ما مسح براحته الشّريفة على مريض إلاّ عوفي، ولا على من علق به داء من الأدواء الظاهرة أم الباطنة إلاّ خلّصه الله تعالى منه. وكم أحيت دعوته السنّة المجدبة، حتّى شابهت تلك السنّة بياضًا في الأزمة السود لشدّة خضرة الزّرع فيها، حتّى يرى أنّه أسود بسبب سحاب عارض جاد بالمطر الكثير، إلاّ أن ظننت الوادي ماء جاريًا من البحر أو سائلاً من الوادي. وهذا هو الإسلام. هذا هو انسلاخ كامل عن كلّ ما في الجاهلية، وتحرّج بالغ من كلّ أمر من أمور الجاهلية، وحذر دائم من كلّ شعور وكلّ حركة كانت النّفس تأتيها في الجاهلية، حتّى يخلص القلب للتصوّر الجديد بكلّ ما يقتضيه، فهو الغيث الظاهر والباطن، والغيث النافع الدافع والغيث الهادي إلى الصّراط المستقيم. فلمّا أن تمّ هذا في نفوس الجماعة المسلمة، أخذ الإسلام يقرّر ما يُريد الإبقاء عليه من الشّعائر الأولى ممّا لا يرى فيه بأسًا، كاحترام الأشهر الحُرُم مثلاً، والنّهي عن الاقتتال فيها على وجه الخصوص، ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي. فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنّه كان يفعله في الجاهلية، ولكن لأنّه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام، تستمد أصلها من الإسلام، فهو تنقية وترقية وبهاء ونور.