اليُسر والتّسهيل خاصة بارزة من خصائص الشّريعة الإسلامية، لتجعلها قابلة للثبات والاستمرار، ومواكبة حياة الإنسان في كلّ زمان ومكان، قال تعالى: {يُريد اللّه بكم اليُسر ولا يُريد بكم العُسر}. فاليُسر مقصد من مقاصد الربّ سبحانه على عباده، قال اللّه تعالى: {ما يُريد اللّه ليجعل عليكم من حَرَج}، أي لم يشرّع لعباده ما فيه ضيق وشدّة، بل أتمّ عليهم النِّعمة بالتّرخيص كالتيمّم عند المرض وعدم الماء، ويؤخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي أنّ ''المشقة تجلب التّيسير''، و''الضرورات تبيح المحظورات''. وأمّا في السُّنَّة المطهّرة، فقد وردت عدّة أحاديث تنص على أنّ دين اللّه بُني على التّيسير، فقد روى البخاري في الصّحيح قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ''إنّ الدّين يُسر، ولن يُشَادَ الدّين أحد إلاّ غلبهُ..''، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أي ''لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينية وترك الرّفق إلاّ عجز وانقطع فيغلب''، وقال الإمام النووي: ''أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم''. وروى البخاري، أيضًا، عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ''أحبُّ الدّين إلى اللّه الحنيفية السَّمحة''، أي أنّ اللّه بعث نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم بالحنيفية السّمحة، فهي حنيفية في العقيدة سمحة في التّكاليف والأحكام، وجاءت لتُحافظ على مصالح النّاس في المعاش والمعاد، والعاجل والآجل. ورَحِم اللّه أبا إسحاق الشاطبي إذ قال، في كتابه ''الموافقات'': ''وإنّما رفع الإسلام الحَرَج عن أمّته وحذّر من الغلو في الدّين لأمرين: الخوف من الانقطاع في الطريق وبغض العبادة، والخوف من التّقصير في الواجبات. وفي عصرنا نرى أنّ النّاس انقسموا في هذا الأمر إلى فئات ثلاث: فئة تدعو إلى تيسير ينطلق من خلفيتها الجاهلة بمقاصد الشّريعة الإسلامية وقلَّة بضاعتها بنصوص القرآن والسُّنَّة والميل إلى الدُّنيا، وهؤلاء يردّدون كلمات حقّ كسعة الشّريعة ومرونتها، لكنّهم يريدون منها الباطل، فالتّيسير عند هؤلاء يعني التّفريط أو التّساهل في أداء التّكاليف الشّرعية، فهم يدعون إلى فقه جديد وفهم جديد للشّريعة، فمن التّيسير، عند هؤلاء، إباحة الفوائد الربوية وعدم إلزام المرأة باللّباس الشّرعي ونحو ذلك. وفئة مالت إلى التّشديد، واعتبرت التّيسير طريقًا إلى هاوية الانحلال من التّكاليف، واستدلّوا أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم كان يختار الأشقّ على نفسه، وأنّنا إذا دفعنا كلّ مشقّة تعترضنا ترتَّب عن ذلك إسقاط كثير من الأحكام الشّرعية. وفئة القائلين بالتوسُّط الّذين يعتبرون أنّ التّيسير هو الأخذ بالرُّخصة عند الحاجة إليها، وتنفيذ الأوامر الشّرعية بأسهل الطرق المشروعة، وليس معناه التّفريط أو التّساهل في أداء التّكاليف الشّرعية. فالشّريعة راعت الضرورات والحاجات والأعذار الّتي تنزل بالنّاس فقدّرتها حقّ قدرها، وشرّعت لها أحكامًا استثنائية تناسبها. والبُعد عن التشدّد والأخذ باليُسر هو المنهج الّذي كان عليه السّلف الصّالح رضوان اللّه عليهم، يقول أنس بن مالك: ''كنّا عند عمر رضي اللّه عنه فسمعته يقول: نهينا عن التكلّف''. ويقول الإمام الشعبي: ''إذا اختلف عليك أمران فإنّ أيسرهما أقرّ بهما إلى الحقّ''. وقال سفيان الثوري: ''العلم أن تسمَع الرُّخصة من ثقة، أمّا التّشديد فيحسنه كلّ أحد''. وقال الشاطبي في الموافقات: ''المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الّذي يحمل النّاس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدّة، ولا يميل إلى طرف الانحلال''. *عضو المجلس العلمي بالعاصمة