ألحانه بلسم للمجانين ورسالته قضّت مضجع الفرنسيّين ابن باديس حثّه على مواصلة غنائه الهادف ومفدي زكريا اختار اسمه الفنيّ في ذكرى وفاته الواحدة والعشرين، التي صادفت الخامس فيفري الماضي، لا تزال ذكرياته تعبق بنسيم الكلام الأصيل والموسيقى المعاصرة، تتذكّر الأجيال روائعه ''يا كعبة يا بيت ربي''، ''يا ناس أنا حبّيت'' و''يا محمّد مبروك عليك''. وبأسلوب إبداعيّ هادف ومميّز غنّى وألّف ولحّن، لينبثق عشق عبد الرحمن عزيز للفنّ، فكان بلسما للأرواح المكلومة والفكر المشوّش والعقل المُضطرب. رصيد فنيّ، وتراث شعبيّ، وذكرى عن أصالة رمزٍ له مكانته الكبيرة في قلوب النّاس، يحضُر شخص المرحوم عبد الرحمن عزيز في تواضعه وعطائه، طيبته وكرمه، وعزّة نفسٍ امتزجت ببساطة عيش ورثتها عائلة ابنه البكر سفيان، التي أغدقت على ''الخبر'' بكرم ضيافتها في يوم ممطر وبارد، حيث أضفى الحديث عن جدّهم دفئا على اللقاء. استرجعت حينها زوجة الابن لحظات رعايته التامّة لعائلته، بكلّ عطف وودّ، أمّا قرّة عينيها، فاطمة الزّهراء وعبد الرّحمن، اللّذان لم يدركاه، لكنّهما عرفاه من أثره، فعبّرا عن افتخارهما كونهما حفيدا الفنان عبد الرحمن عزيز، الذي عانقت صوره جدران قاعة الضيوف وملأت جوائزه الرّفوف، لتختار فاطمة الزهراء بداية القعدة بإلقاء شعر ملحون من تأليفها، يختصر الحياة الفنيّة والاجتماعية لجدّها، وقد وُفّقت في خطف رهافة الإحساس وموهبة الشعر منه، لاختيارها كلمات عذبة ومعبّرة أثارت فضولنا في معرفة أهمّ محطّات حياة سفير الأغنية العصرية. صادق محمد العيد آل خليفة وابن باديس ومفدي زكريا اختار اسمه الفنيّ استهلّت العائلة، في البداية، بذكر لقبه الحقيقي ''آيت''، معرّجة على تفاصيل اختيار اسمه الفنيّ الذي عاد للشاعر مفدي زكريا، الذي التقاه عندما كان عضوا ناشطا في صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية، برئاسة الشهيد محمد بوراس في الثلاثينيات، وهو في سنّ ال71 تمكّن من تلحين 85 أنشودة، ليقرّر ابن منطقة القبائل الكبرى ''آزفون'' شقّ طريق الفن الأصيل بالالتحاق بفرقة محي الدين بشطارزي، ثم فرقة محي الدين لكحل والاحتكاك بعدّة أساتذة، على غرار أحمد يسري ودحمان بن عاشور. وعادت كنّته للحديث عن أولى طريق نجاح الفنان الشامل المواهب التي رسمها بتميّزه في تجويد القرآن الكريم، بشهادة الشيخ محمد العيد آل خليفة، كان خلالها لم يتعدّى سنّ ال21، بعد التحاقه بالمدارس القرآنية بجامع سيدي علي، ثمّ السّلام والشبيبة بالعاصمة، ورشّحه بعدها للالتحاق بالإذاعة لتجويد القرآن، لينتقل إلى عالم الأناشيد، أدّى خلالها أهمّ الأناشيد المشهورة في الوطن العربي ك''عليك منّي السلام'' و''بلادي بلادي''. مولده.. نبوءة استقلال تحقّقت بعد 24 سنة صنعت صُدفة ازدياد الرضيع والطفل اليافع عبد الرّحمن بتاريخ 5 جويلية 0291 بحي القصبة حماسه في محاربة الاستعمار، بعد أن التمس حيلة توعية الأطفال والشباب والأشبال في صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية، من خلال تأليف أغانٍ تحثّ على التمسّك بالرّوح الوطنية وتغرس القيم الدينية. وتفتح النقاش أمّ فاطمة الزهراء قائلة ''إنّ والده كان يرفض فكرة دخول ابنه عبد الرحمن لعالم الفنّ، سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي''، غير أنّ شهادة الشيخ عبد الحميد بن باديس زادته حماسا في مواصلة مشواره الفنّي، بعد أن سمع منه كلامه، ''أنت تعلّمهم الروح الوطنية، فالوديان الصغيرة تُصبّ كلّها في واد كبير، وهكذا أطفالنا يجب أن نعلّمهم مبادئ حب الوطن والدفاع عنه ليكبروا مُتحدّين على هدف نيل الحرية ودحر المستدمر الفرنسي''، وهو ما تحقّق فعلا، حيث التحق بالفرقة الجيلالية، وألّف عدّة أناشيد وطنية ودينية، منها ''زاد النبي وفرحنا بيه''، ''هيّا لنبني وطني''، ''يا رسول الله''، كما حرص على تقديم رسالة تقديس المبادئ لفئة الأطفال، حيث عمل برفقتهم على بيع صور في المقاهي والطرقات لكسب دراهم، تمّ بها فتح أفواج كشفية لاحتضان المنخرطين الصغار، بالرغم من الرقابة والحصار المفروضين آنذاك، ولم يمنعه انشغاله بالغناء من التردّد على الجمعيات الإصلاحية، حيث كان على علاقة مستمرة مع الشيخ محمد العيد آل خليفة، الذي أعطاه بعض الأشعار الوطنية لتلحينها في الطابع العصري الذي تميّز به، ليكلّل مجهوده، في مجال التلحين في مراحله الأولى الاحترافية، بالتعاون مع تونسيّين نهاية الأربعينيات، وغنّى بعض الألحان ''يا ناس حبّيت''، ''البهجة''، ''بشرى سعيدة''، كما تتلمذ على يده عدّة فنانين، أمثال حامي الشريف، السعيد فرحات ومحمد العماري. واحتك بكبار الشخصيات الفنية، على غرار الفنان محي الدين بشطارزي ورشيد قسنطيني. متعدّد المواهب.. وحامل مسؤولية العائلة والوطن كانت وفاة والد عبد الرحمن آيت نقطة تحوّل في حياته، حيث حمل مسؤولية التكفّل بعائلته، بعدما اضطرّ للتوقّف عن الدراسة، رغم تفوّقه، وهو في سنّ الخامسة عشر، وكان يعمل لكسب لقمة العيش لوالدته وأشقائه السبعة بصفته الابن البكر. ولم يثنه شقاء العيش عن المضيّ في الحياة الفنّية التي سكنت روحه ووجدانه، فراح يبدع على خشبة المسرح تارة، ويداعب بأنامله آلة الفيثارة تارة أخرى. وبين تلقين المواعظ والإرشادات للأطفال حرص على ممارسة رياضة الجمباز وألعاب القوى، حيث كان ينتمي لفريق مولودية الجزائر. بالأغنية السّيكولوجية.. عالج المرضى العقليّين وأرهب الفرنسيّين اضطر عبد الرحمن عزيز، في بداية الخمسينيات، للاستقرار بولاية البليدة وتكوين أسرة هناك، بعد أن حصل على عمل بمستشفى الأمراض العقلية سنة 4591. وقد مكّنه الاحتكاك الدائم بالمرضى، والابتسامة لا تفارق محيّاه، من معرفة مكنوناتهم، حيث اهتدى لفكرة معالجتهم بممارسة النّشاطات الثقافية وتهدئة أعصابهم بالموسيقى بدل الأدوية، وهي المبادرة التي حقّقت نتائج إيجابية أثارت إعجاب الدكتور فرانس فانون، الذي أثنى بمجهودات عبد الرحمن عزيز، وقال كلمته الشهيرة ''بفضلك نزعنا القيود والسلاسل عن المرضى''، وأوصاه بمحاربة الاستعمار الغاشم بالأغنية السيكولوجية''، ليضع بعدها برنامجا كاملا للعلاج النّفسي، ابتداء من 6591، يُعنى بتدريب المجانين على فنّ الغناء والتمثيل ومختلف النشاطات الترفيهية، ونجح عدد كبير من المجانين في التعبير عمّا يختلج في نفوسهم على الركح الذي شهد أوبرا ''حكاية الثورة'' من تمثيل مجانين استعادوا جميعا عافيتهم، فكان للفنّان المرحوم الفضل في دمج المرضى عقليا في الحياة الاجتماعية إلى غاية تقاعده سنة 3791، وبذلك حقّق حلما راوده في صغره في أن يكون طبيبا مختصّا في الأمراض العقلية. كان صدى ألحانه يعلو صوت المدافع الفرنسية، فبالكلمة العذبة والألحان الشجيّة نجح في إيصال إحساسه لكلّ فرد، وبقوّة رسالته سيطر الخوف على المستعمر الغاشم من عدم تمكّنه من صدّ قنابل الأبجدية الموقوتة، التي كُتبت حروفها أشعارا تحمل رسائل بعث النزعة الثورية والغيرة على الوطن في قلوب الجزائريين. كيف لا وهو الذي ردّدت معه جموع غفيرة من المناصرين داخل مدرجات الملاعب ''الله أكبر'' وهو يؤدّي نشيد ''يا كعبة يا بيت ربي''، ممرّرا رسالاته بين الحشود دون أن تدركه عيون فرنسا. وحدث أن اعتقلته السلطات الفرنسيّة عندما أدّى أغنية ''أرواح أرواح يا بن عمّي''، والتي تخاطب الجزائريين المهاجرين بفرنسا، وحملت كلماتها تدويل الثورة ودعوة بني جلدتهم للمساهمة في نيل الحرية. ولأنّ نمط الشعر ''رمزي''، تمكّن عبد الرحمن عزيز من مراوغة المستجوبين آنذاك، وطمأنهم بأنّ الأغنية تعبّر عن لوعة الاشتياق للأحباب المغتربين. كما غازل المرأة الجزائرية بأغنية ''فاطمة الزهراء يا بنت بلادي''، وعزّز من قيمة الاسم كردّ فعلٍ، بعد أن كان يستهوي إطلاقه للخادمات لدى عائلات المعمّرين، في مسعى لإهانة شخص فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلّم، إلى جانب أغانٍ لا تزال خالدة ك''أنا العربي، أنا الحرّ''، و''يا محمّد مبروك عليك الجزائر رجعت ليك''، وسجّلها في فيديو كليب يظهر فيها ابنته الصغرى وولده، واستمرّ في العطاء الفني باختيار الكلم العذب واللّحن الشجي، ليعبّر بصوته عن رقي الفن المعاصر والأصيل في الوقت نفسه، من خلال اختيار قصص معبّرة تحاكي كيان ووجدان الإنسان، فغنّى للصداقة، للأرض، العروبة والحبّ في ''يا ناس أنا حبّيت''، ''أنا عقلي حار بين البيضا والسمرا ''. لهذا ترك المسرح.. وحادثة بتر أصبعه دليل جديّته ''مسرحيّة زعيط ومعيط ونفاز الحيط'' كانت آخر مسرحيّاته، إثر تعرّضه للسقوط من على الركح، ما تسبّب في إصابة رقبته، حيث اغتاظ حينها وأقسم يمينا بعدم العودة لخشبة المسرح، ويقول حفيده عبد الرحمان، صاحب 12 سنة، الذي اكتسب مهارة المسرح الارتجالي والموسيقى عن جدّه، إنّ جده كان يبدع في كل أدواره واشتهر بمسرحيتين ''شيخ القصر'' و''صلاح الدين الأيوبي''، ومثّل كثيرا مع فرقة محي الدين بشطارزي، غير أنّ روح الفكاهة لم تفارقه في جلساته رفقة عائلته ومقرّبيه، مداعبا تارة العود وأخرى الموندول أو الفيثارة. في حين أثبتت حادثة بتر أصبعه وفاءه للفنّ وجديّته في العمل، حيث تتلخّص تفاصيل الواقعة، حسب شهادة زوجة ابنه سفيان، ''أنّه كان بصدد التوجه لمبنى التلفزيون بهدف تسجيل أنشودة ''يا كعبة يا بيت ربي'' ولم ينتبه لسلكٍ علق بالسيارة أثناء ركوبه، وهو يحاول نزعه التوى السلك بإصبعه، ما أدّى إلى بتره، وبالرغم من خطورة الحادثة التي استدعت التنقل لعيادة طبية، لم يلغ موعد التسجيل وأدّى الأغنية ليخرّ مغشيا عليه داخل الأستوديو من فرط الألم. عطاء استمرّ لآخر نفس من عمره عبد الرحمن عزيز لم يلعن الظّلام، وإنّما أضاء شمعة على مرّ أكثر من 06 سنة من العطاء الفني، نال وسام الاعتراف بشخصٍ كرّس حياته لبعث رسالة نبيلة في طابع الغناء العصري والواقعي دون مقابل، سعيا منه لبناء قاعدة شبّانية قوامها العلم والتنوّع الثقافي، يقول تلميذه ومرافقه عمار ركّابي ''لم يثنه كبر سنّه عن المشاركة في مختلف النشاطات الثقافية وتأسيس جمعية الورود الغنائية، كما أطلق مبادرة تعزيز النشاط الثقافي بالمؤسّسات التربويّة سنة 5891، غير أنّ المشروع لم يستمرّ، بسبب بداية تدهور الوضع الأمني''، مختتما كلامه أنّ الفنان عشق الجزائر، أحبّ أغاني فيروز وتمنّى زيارة القدس المحتلّة.