قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، لقد أجزل ربّنا علينا من نعمه العظيمة، وأغدق علينا من آلائه الجسيمة ما لا يُحصى، فيمينه سبحانه ملأى لا تغيضها نفقة، يقسم الأرزاق، ويغدِق العطايا، ويرزق مَن يشاء بغير حساب. ويبتلي اللّه سبحانه عباده بالنِّعم، كما يبتليهم بالنِّقم {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. إنَّ المتأمِّلَ في آي القرآن يجد أنَّ المولى سبحانه قرن الشُّكر بالإيمان به فقال: {ما يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وآمنتم}، وأخبر سبحانه أنّ الشُّكر هو الغاية من خلقه وأمره: {واللّه أَخْرَجَكُم من بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وجعل سبحانه رضاه في شكره: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}، وما خلق اللّه اللّيل والنّهار إلاّ للتّفكُّر والشّكر: {وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيل وَالنَّهار خِلْفَةً لمَن أراد أن يَذَّكَّرَ أو أراد شُكُورًا}، وأخبر سبحانه أنّه إنّما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته: {وَاشْكُرُواْ للّه إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. وقد أثنى اللّه على أوَّل رسولٍ بعثه إلى أهل الأرض بالشُّكر فقال: {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وأمر عبدَه موسى أن يتلقَّى ما آتاه من النُّبوّة والرِّسالة والتّكليم بالشُّكر فقال عزّ وجلّ: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ منَ الشَّاكِرِينَ}، وأثنى على خليله إبراهيم بشُكر نِعمه: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للّه حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ}، وأمر اللّه به داود فقال: {اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، ودعا سليمان عليه السّلام ربَّه أن يكون من الشّاكرين: {رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ}، وأمر اللّه خاتم الأنبياء محمّدًا بالشُّكر فقال: {بَلِ اللّه فَاعْبُدْ وَكُن من الشَّاكِرِينَ}، والآيات والعبر والعظات لا يتَّعظ بها إلاّ الشّاكر، قال سبحانه: {كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لقوم يشكرون}. والشُّكر يكون بالقلب واللِّسان والجوارح؛ فيكون بالقلب بنسبة النِّعَم إلى بارئها، قال الحق سبحانه: {وَمَا بِكُم من نعمة فَمِنَ اللّه}، ويكون باللِّسان بالإكثار من الحمد لِمُسْديها: “الحمدُ للّه تملأ الميزان”، فالحمد رأس الشُّكر وأوَّله، والشُّكر بالجوارح يكون بالاستعانة بها على مرضاة اللّه، ومنع استخدامها في مساخطه وعصيانه. ولذا فشكر العين أن لا يبصر بها ما حرَّم اللّه، ولا يطلق بصره على حُرمات اللّه، وشكر اللِّسان أن لا يتحدَّث به إلاّ حقًّا، ولا ينطق به إلاّ صدقًا، وشكرُ الأذنين أن لا يستمع بهما إلى غيبة وبهتان ومحرَّم، وهكذا بقية أعضاء البدن كلّها. واللّه وليّ التّوفيق.