تقدّم $، في صفحة تيارات مساهمة للدكتور محمد العربي ولد خليفة، رئيس المجلس الشعبي الوطني، تتعلّق بالتحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة في الجزائر والمنطقة الأفرو عربيّة. أخطبوط الفساد من المكافحة إلى الوقاية المؤسساتية لا نشير في هذا المقام إلى أخطبوط الفساد الظاهر والخفي في هذا القطاع وغيره لسببين لا علاقة لهما هنا بالتوظيف السياسي: أولهما: وهو الأهم، ويتعلّق بالوقاية من شرور هذا الأخطبوط، ولا بديل للوقاية منه خارج هيئات المحاسبة والرقابة التي من المطلوب أن تسهر على تطبيق القوانين التي تحمي المجتمع ولا تخاف في الحق لومة لائم(..) ولازلنا نقول لزملائنا في المؤسسة التي نعمل فيها بأن عدم وضع القوانين، أصلا، أفضل من وضعها ثم عدم تطبيقها، لأن ذلك يؤدي، حتما، إلى إضعاف الهيئة والشك في مصداقية الدولة، ومهما كانت موضوعية المقاييس المعتمدة في منظمة الشفافية الدولية Transparency International فإن مرتبة 150 من بين 174 بلد تتطلّب العلاج المستعجل، ولو بالكيّ. ثانيهما: إن التنديد بالفساد وتعيين أباطرته وحاشيتهم المتواطئة مطلوب ومفيد في وسائط الإعلام، وممارسة مرغوبة لحرية التعبير لمساعدة هيئات أخرى على اكتشاف جوانب من عشّ الغربان، ولكن له أيضا أثر أسود جانبي مضرّ (Collatéral) يستفيد منه أصحاب النوايا السيئة للتشهير بالجزائر كلها وتخويف الآخرين من الإقدام على التعامل معها(..) ومن المؤسف أن يعمّم حكم الفساد على الجميع، ويذهب ضحيته حتى من ضحوا من أجل بلدهم. يؤرّخ الكثيرون لبداية المسار الديمقراطي في الجزائر بأحداث أكتوبر 1988، ودفعت بعض مؤسسات الدولة ثمنها، وانصبّ الاحتجاج بوجه خاص على حزب جبهة التحرير الذي وضعت على كاهله ما آلت إليه أوضاع البلاد من تدهور، ولكن من المفيد أن نشير إلى أنّ النار كانت تشتعل تحت رماد الخوصصة العشوائية، وأحيانا بدوافع انتقامية من عهد سابق، وتحت ضغط شحّ موارد الدولة بعد الانخفاض الكبير في أسعار المحروقات.. يهدف التذكير بتلك الظروف إلى الإشارة إلى أحد عوامل ظهور البديل الإسلامي، تحت عنوان “الإسلام هو الحل المنقذ” من دوامة الإفلاس، ووجدت فئات من الناس المحرومين في الإسلام القيم- الملجأ (Valeurs refuges) من التدهور والضلال. وأعقب ذلك دوامة وهبوط أكثر خطرا يسمى المأساة الوطنية، بضحاياها من النخبة ومن الناس العاديين الأبرياء، ولم تكشف كل خباياها إلى اليوم، ومازالت مضاعفاتها مؤثرة في الساحتين السياسية والأمنية، غير أنّ المهم أنّ الجزائر، دولة ومجتمعا، خرجت منهكة وأفلتت من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، ومن وصاية أجنبية تنهي كلّ مكاسب الثورة في الداخل والخارج. بالنظر للتحولات المتسارعة في ساحتنا السياسية وما يشهده العالم من حولنا، فمن السهل أن يتأكّد المتابع للنظام العالمي الذي يوصف بالجديد ويسطّر قواعده الأقوياء، أنّ الديمقراطية لم تعد شأنا داخليا، فقد أعطى الأقوياء لأنفسهم الحقّ في تنقيط البلدان الناشئة على سلم الديمقراطية، من خلال شفافية ونزاهة الانتخابات أو الاستفتاءات. إنّ دعوة ملاحظين أجانب، من هيئات رسمية ومنظمات غير حكومية، يعني ضمنيا قبول التعرض لاختبار لمدى تطبيق تلك الآليات، من بداية العملية إلى نهايتها، والبلاد التي ترفض يمكن أن توضع في القائمة السوداء. من المعروف أنّ مراقبة الممارسة الديمقراطية وتصنيف البلدان داخل قائمتها أو خارجها تخضع كذلك لمصالح التكتل اللبيرالي، الذي أخرج منها منظومة البلدان الاشتراكية والاتحاد السوفياتي السابق، وعدد منها يحمل اسم الجمهوريات الديمقراطية الاشتراكية، أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين، ولا يزال يعتبر بعضها في مرحلة التربص والتدريب أكثر من عقدين بعد اختفاء التهديد الماركسي اللينيني، ولم يفعل شيئا للضغط على تركيا واليونان في عهد حكم الجنرالات والعقداء، وإسبانيا فرانكو وبرتغال سالازار، وأغلب بلدان جنوب أمريكا التي حكمها عسكريون مستبدون لا يختلفون عمّا يُنسب لستالين، ولا على بلدان أخرى تصنّف في قائمة الحلفاء والخدم المطيع للعم سام لم تعرف في تاريخها الانتخابات والحياة البرلمانية، وأين تتحكم عائلات تتوارث السلطة بحكم الحق الإلهي. لقد اختارت الجزائر، مباشرة بعد الميلاد الجديد للجمهورية سنة 1963، اسم الجمهورية الديمقراطية الشعبية، وهو عنوان مستمد من بيان الأول من نوفمبر 1954، وليس من نماذج أخرى في الشرق والغرب فلا يمكن للديمقراطية أن تصبح ممارسته عادية إلا داخل مؤسسات تستمد شرعيتها من اختيار الشعب ومن تعددية سياسية تشاركية وتوافقية، وليس من أحاديات متعددة لا تعبّر عن القوى الحقيقية في المجتمع. الديمقراطية: المطلب ومصاعب المسار تعرّض المطلب الديمقراطي المنصوص عليه في بيان الأول من نوفمبر 1954 ووردت جوانب من تطبيقاته في لوائح مؤتمر الصومام 1956، لعدد من العوائق، أشرنا في الجزء الأول من هذه المقاربة إلى بعض أسبابها ومضاعفاتها، دون اتهام أو تبرئة لأحد من الأفراد والجماعات، سواء كانوا يلبسون “الكاكي” أو بالياقات البيضاء (Cols Blancs)، نضيف إليها الآن العوامل الثلاثة التالية: ^ لقد بقي الجزائريون سجناء في بلادهم لا مواطنون ولا أجانب، وللتغطية على هذه المنزلة بين المنزلتين استخدمت إدارة الاحتلال المسرحية المعروفة بانتخابات ماجلان، لإبعاد المواطنين وتضييق الفرص على المناضلين من كل الفعاليات السياسية الذين اختير لهم اسم الدرجة الثاني في المندوبيات المالية، وحتى في الجمعية الوطنية الفرنسية التي استخدم بعض المناضلين منبرها للدفاع عن حقوق الجزائريين، وقلما وجدوا أذنا صاغية. ولعل في هذا الإقصاء والتشويه ما يفسر، جزئيا، مصاعب ظهور مجتمع مدني بمنظمات تخدم المواطن والدولة، دون أن تتحول إلى طفيليات أو تخلط بين الدولة، التي هي من أعظم مكاسب الثورة، وبين الاعتراض على أخطاء وانحرافات أو تجاوزات أشخاص فيها. ^ صعوبة التخلص من ميراث الإدارة الكولونيالية المبنية على المركزية الخانقة (Jacobinisme)، المعتمدة لمدة طويلة في فرنسا أكثر من غيرها من البلدان الأوروبية (...) على العكس تماما من البلدان العربية والإسلامية التي كانت تحت الحماية، واحتفظت بصورة شكلية للدولة، وإن كانت السلطة الحقيقية في يد قوة الحماية التي هي الآمر الناهي. ^ والتنظيمات الإدارية الموروثة من عهد الاحتلال، التي تحتقر “الأهالي” وتعتبرهم خطرا داهما. ^ ..أثّرت تلك التقاليد المناقضة للتجربة الجزائرية قبل الثورة (احتلال استيطاني) وبعدها (الثورة وما بعد التحرير)، ومن الملاحظ أن الناس لم يجدوا في الواقع اليومي تغييرا جديا في التعامل مع دواوين الإدارة، بعد الجلسات العديدة المخصصة لإصلاحها التي بقيت في حدود إعلانات عن النوايا. الأمن الوطني ومخاطر الزعزعة من الداخل تمثل مسألة الأمن الوطني الاهتمام الأساسي والدائم للجزائر، وهو في أوائل هذه العشرية من أولى الأولويات، وسيبقى قضية وطنية ينبغي أن يزداد الإجماع حولها، مهما كانت المواقع ومهما تعددت الأحزاب والتيارات الإيديولوجية وأسباب الصراع بينها الآن وعلى الأمد البعيد، فالتوزيع الجديد لخريطة المنطقة قائم على قدم وساق، ومن الغفلة الركون لشعارات تتردد عن مغرب عربي، ويفضّل آخرون وصفه بالكبير، أو التبشير بهلال خصيب أو مجلس تعاون أو حتى وطن عربي وتعاون إسلامي، إذ أهملنا خطة النظام الدولي ومشروعه الأساسي، وهو شمال إفريقيا والشرق الأوسط (MENA)، والتوزيع الذكي للأدوار في تلك الخطة التي بدأها الإستراتيجيون في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، وعنوانها انتصار بلا حرب (a victory without war)، وسماها مهندس السياسة الخارجية للأمريكي هنري كيسنجر “تساقط أحجار الديمينو”، فالمسألة لعبة يحدد قواعدها من طرف واحد، وهي أشبه بالفرجة الأحادية (one man show). استفاد التحالف الأطلسي من انهيار الاتحاد السوفياتي وتقلّص نفوذه في مجاله الحيوي الأول هو شرق أوروبا، وهو، كما يبدو الآن، من فعل وردّ فعل موسكو، حيث تجد نفسها في آخر مواقعها الدفاعية، ولعلّ تحفظها على ما حدث في ليبيا، وخاصة موقفها من الصراع في سوريا وبلدان ما سماه الإعلاميون المحترفون الربيع العربي، وهو تعبير آخر عن الفوضى الخلاقة التي من المحتمل أن تتمخض ولا تلد شيئا يخرج تلك البلدان حقا من الدكتاتورية والفساد والتبعية العمياء، ومن الاستغفال التسليم بأن فيها مهديا منتظرا أو تيارا منقذا، فلا شيء سيتغير خارج مؤسسات قوية بما تحصل عليه من ثقة المواطنين، دون أن تفرّط في مصالح الدولة وسيادتها الوطنية. لا نفصّل القول في أحوال المنطقة العربية التي وصفها المفكر الأمريكي، من أصل فلسطيني، إدوارد سعيد بأنها أشبه بكرة تتقاذفها أرجل من خارجها، وتُسجّل كل الأهداف في مرماها. يدقّ على حدودنا ناقوس الخطر، منذ 1963، واقترب أكثر في منتصف السبعينيات، وأصبح تهديدا مباشرا بعد حملة الناتو على ليبيا. ويحضرنا شريط المخطط الكولونيالي لفصل الجنوب عن شمال الجزائر، وتبنته بغباء زعامة خارج التاريخ (جماهيرية القذافي)، وهي جار له علينا حق الشكر والامتنان أثناء كفاح التحرير، فقد تتجدد الآليات ولكن لتحقيق الهدف نفسه، فمن المعروف أن فرنسا الكولونيالية حاولت، إلى آخر لحظة، فصل جنوبالجزائر عن شمالها، في صورة مملكة أو مجموعة إمارات كرتونية تحت حمايتها، وهناك الكثير من الدلائل لإحياء ذلك المخطط من جديد، انطلاقا من مالي واصطناع مسألة “الأزواد” وتأجيج الصراع بين التوارڤ والعرب والزنوج، والتشهير بالإسلام الذي يقطع أطراف المذنبين ويعرّضهم للجلد في الأسواق وهي أمور لم تظهر في مالي من قبل. إن الذين يمارسون مثل هذا التشويه للإسلام هم على أغلب الظن مرتزقة تحت اسم القاعدة في المغرب الإسلامي. وفي هذا السياق نلاحظ أن رحلات الطواف نحو الجنوب لوفود من النواب ينبغي ألا تتحوّل إلى “عرس الذئب” في المثل الشعبي، بل تذكّرنا برواية أرنست همنغواي عن الشيخ الذي قاوم أمواج البحر، أو رواية ريح الجنوب لفقيد الرواية الجزائرية بن هدوڤة. ينبغي اعتبار ما يحدث في مالي والساحل، وما حدث قبله في السودان وليبيا المعرّضة بدورها للتمزيق، وما يجري في المنطقة الإفريقية التي نسيت واحدا من المناضلين، وهو باتريس مبومبا، الذي جعلت منه الإمبريالية عبرة لمن لا يخضع لجبروت التكتل الغربي. هذه كلها إنذارات، على درجة كبيرة من الخطورة على الوحدة الوطنية لشعبا وترابنا، يمكن أن يستغلها ضعاف النفوس الذين تستهويهم أجهزة ووكالات “فرّق تسد”، لإشعال فتيل العرقية تحت غطاء الجهوية والمذهبية المغلوطة بين الأمازيغ وغير الأمازيغ، على الرغم من أن كل الجزائريين أمازيغ عرب صنهاجة وزناتة وهيلاليين احتفظوا بخصوصياتهم الثقافية، وتمازجوا عبر العصور ولم تفرّق بينهم أبدا حدود، ومسلمون سنة أو إباضية وحّدهم الإسلام والتاريخ، ولا يفرّقهم هذا المذهب أو ذاك، وتزيدهم تجانسا لغة جامعة هي العربية، التي حافظ عليها وخدمها جزائريون في كل أنحاء القطر، دون أن تقصى الألسنة واللهجات المحلية في كلّ القطر، وهي المدخل لغرس الحداثة واستنباتها في بلادنا والمنطقة، إذا حظيت بعناية النخبة المفكرة والسياسية حسب مقولة الفيلسوف الجزائري محمد أركون عن الدالات الثلاثة (Les Trois D)، أي لغة دين ودولة ودنيا، ومن الطبيعي أن تكون وتبقى لغتنا الوطنية والرسمية، ولا علاقة لها بالعرق والطائفة وبمنأى عن الأدلجة (Idéologisation) والزعامات الجهوية والانعزالية التي من المرجّح أن تكون خارج التاريخ والمستقبل. وعلى أي حال نحن لا نستهدف مما سبق إرضاء أحد ولا إغضاب أحد، فليس كل ما يفعله البلاط المغربي (ترسيم الأمازيغية وفرض حروف التيفيناغ) يصلح لغيره قدوة في الديمقراطية اللسانية، وهو ما أشرنا إليه في مداخلتين، أولاهما في بومرداس سنة 2007 عن تعليم الأمازيغية وحروفها والأخرى في جامعة مولود معمري سنة 2012، تكريم من مدير الجامعة ومخبرها في علوم اللسان. نجد تلك المغالطات في المؤتمر الأمازيغي (CMA) العالمي وحركة الحكم الذاتي التي يدعو لها ما يسمى الماك (MAK) وربيبه الحكومة المؤقتة لمنطقة في قلب الشمال الجزائري (GPK)، وما يحدث بين الحين والحين بين مواطنينا من الميزاب والسكان العرب، والاحتجاجات التي تتصاعد في الجنوب الكبير للمطالبة بحقوق مشروعة، وقد يكون بعضها مجرّد تحريض. ولكن ألا تنفر الطبيعة من الفراغ، وهنا ينبغي التذكير بمسألة التوارڤ التي اشتغلت بها السلطات الكولونيالية لمدة طويلة عن طريق التبشير والاختراق (Infiltration) للاستقطاب. وقد خصصنا لمجتمع التوارڤ، المتمسك بجزائريته والمعتز بمساهماته النضالية لتحرير الوطن، دراسة اجتماعية تاريخية في مؤسسة وطنية قبل ثلاث سنوات. كل تلك القنابل الموقوتة ينبغي أن تسعى نخبنا الفكرية والسياسية لتفكيكها وإبطال مفعولها، بمزيد من اليقظة الوقائية. فما وحّدته التجربة التاريخية وثورة التحرير الكبرى لا يقبل أن يكون حجرة في الديمينو أو يتنازل عن وحدة وطنية وسيادة قدّم الجزائريون في سبيلها ثمنا باهظا، وألا يغفل أحد في بلادنا لحظة عن اللاضمير المتستّر، وما يسعى له آخرون في المحيط القريب والبعيد، من الذين يعتقدون أن إضعاف أحد بلدان المنطقة قوة لهم. خلاصة: من دروس تيڤنتورين بعد أن أحبط الجيش الوطني الشعبي مفعول العدوان الغادر على مركّب الغاز في تيڤنتورين بعين أمناس، وما سبق ذلك الحادث وما أعقبه من احتجاجات جذبت اهتمام بعض الساسة بدافع وطني وسياسويين يبحثون عن الصيد في المياه العكرة، فإن علينا أن نراجع ما فعلنا طيلة نصف القرن الماضي، وأن نفكّر بعمق وذكاء فيما ينتظر بلادنا في نصف القرن القادم، أي عندما نحتفي بمرور قرن على استعادة السيادة والشروع في بناء الدولة وإعادة تأسيس الجمهورية، وأن ننتقل من ردّ الفعل على المفاجآت غير السّارة إلى حرمان الأعداء، من أيّ جهة جاءوا، من أيّ لعبة أو رهان على زعزعة استقرار شمال الجزائر أو جنوبها. إنّ للجزائر رصيداً كبيراً في أغلب بلدان القارة السمراء، فقد ساندت كفاح شعوبها من أجل الحرية والاستقلال بنزاهة مثالية، ولم تطلب أي مقابل مثل الولاء للسلطان أمير المؤمنين. وتكفّلت بعد الاستقلال، أي خلال نصف القرن الماضي، بالآلاف من الشباب الإفريقي في مدارسها وجامعاتها بمنأى عن التجنيد الإيديولوجي وما يعرف بغسْل الدماغ، كما قدّمت بسخاء الكثير من المساعدات المالية، بما فيها إلغاء ديون بعض البلدان الإفريقية التي عانت وتعاني من الجفاف والأوبئة. وتمثّل الجزائر البلد القاطرة في منظمة الاتحاد الإفريقي، فهي أكبر بلد له حدود وعمق إفريقي، وليس له أيّ نوايا توسعية، فقد دافعت في كل المنابر الدولية على ضرورة المحافظة على الحدود القائمة كما كانت عليه قبل استقلال البلدان الإفريقية. انظر دراسة بعنوان: ثورة التحرير والتحوّلات على الساحات الجهوية والدولية الجزائر جانفي 2012. نعرف من الجغرافيا أن لكل بلد في العالم جنوباً وشمالاً، وإذا أضفنا التاريخ البعيد والقريب فإن جزائر الشعب والدولة هي شمال الجنوب وجنوب الشمال. يأخذ هذا التعبير معناه إذا ذكّرنا من يعنيهم الأمر بأن الجنوب الكبير يطفو على محيط من المياه الصالحة للشرب وتمثّل، حسب تقديرات الخبراء وما أظهرته الأقمار الصناعية، أكبر خزان مياه في العالم على مساحة تزيد على مليون كيلومتر مربع، وأن صحراءنا الشاسعة هي من أكثر المناطق المشمسة في العالم يقدّرها المختصّون في الطاقات البديلة بما يساوي 100 محطة نووية، تعمل كلها في الوقت نفسه، وهي طاقة تكفي المنطقة المغاربية وقسما من إفريقيا وجنوب المتوسط. لا نشير هنا إلى الاحتياطي الضخم من الغاز الصخري الذي يقدر بتريليونات الأطنان مقابل بترول، وهو موضوع أثار جدلا طويلا في البرلمان وفي وسائط الإعلام، ونسي بعض الغيورين على البيئة والمياه أن ذلك الاحتياطي الضخم يسيل لعاب الكثير من بلدان الشمال. ويبدو في رأي عدد من المختصين أن نفع استغلال الغاز الصخري أكثر من ضرره. وعلى أي حال لسنا من أهل الاختصاص لإبداء الرأي في هذا الموضوع، هل سيكون الخيار بين أن نقوم نحن باستغلال ذلك المخزون الضخم أو يحضّر آخرون لاستغلاله وهم يجاهرون بذلك علنا؟ فماذا تعني الإعلانات المتكررة على لسان كبار المسؤولين من باريس ومن شمال مالي عن تحرير الساحل والصحراء؟ أي صحراء؟ هل هي بداية تنذر بالخطر المحدق بجنوبنا، وإحياء للمخطط الأصلي الذي وضعته فرنسا، وخصّصت له وزارة الصحراء، وحمل ذلك المخطط اسم المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية سنة 1957. إن النعرة الكولونيالية والأحلام الإمبراطورية مازالت هي الدافع والهدف لكل القوى الكبرى وراء البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وعلى الرغم من أن بعض زملائنا يصفون مقولاتنا المخدّرة من عودة الكولونيالية والشهية الإمبراطورية الإمبريالية بالرومانسية أو التوقف في عقد السبعينيات، فإن الأدلة على تلك العودة والشهية تتواتر بلا انقطاع، وخاصة في إفريقيا المستضعفة بطريقة مباشرة في كل غرب إفريقيا وما يسمى “فرنسا– إفريقيا”، وأحداث ساحل العاج ورئيسها السابق الذي يحاكم الآن في لاهاي درس لمن يعصي الأوامر، سواء أكان متهما بالدكتاتورية أو ديمقراطي لا ينفّذ أجندة “المعلم” الذي لا يكتفي بالقواعد العسكرية واستغلال الثروات في قارة يراهن على ثرواتها وكأنها فريسة مستسلمة لأنياب الوحوش، بل لا يتوانى عن تعيين وكلاء بأسماء تحكي انتفاخا سورة الأسد. وقد حلّل الباحث الأمريكي هرمان لوبوفيتش، في كتابه “استعادة الإمبراطورية”، ما سماه الثقافة الممتزجة بالإيديولوجية الكولونيالية عند دول الغرب عموما، والتي تظهر على السطح بقوة كلما تعرّضت تلك الدول لأزمات داخلية، وهو ما نشهده اليوم لدى ساسة فرنسا وبريطانيا الذين يتصيّدون مناطق النزاع، وأحيانا يكونون وراء إشعالها، وخاصة في مستعمراتهم السابقة لبيع السلاح للأطراف المتنازعة في إفريقيا والشرق الأوسط (من يدفع الثمن؟)، وكأنهم يثأرون لانسحابهم من تلك البلدان التي تسلّطوا عليها. فلأول مرة منذ تأسيس الأممالمتحدة سنة 1948 تسعى الدولتان السابقتان لتسليح معارضة علنا وحتى خارج ميثاق الأممالمتحدة. ما هو مصدر هذه الجرأة؟ مهما كانت طبيعة النظام القائم في سوريا، وليبيا التي تجند الحلف الأطلسي لتغيير نظامها والتمثيل بالمسؤول الأول فيها على شاشات التلفزيون خارج محاكمة وعدالة، وكما فعلوا قبل ذلك بالعراق ورئيسه، ولم تقم لذلك البلد قائمة إلى اليوم، ولعلّ في القائمة العربية والإفريقية بلدان أخرى مرشحة، إذا حاولت الخروج من بيت الطاعة والاستكانة. يتبع