إذا ما ضاقت الدنيا بالعبد وأحسّ بانفضاض الخلق من حوله فالذِّكر قرّة عينه وجليسه، وإذا ما ادلهمّت به الخطوب وتحيّرت القلوب فالذِّكر سلواه وأنيسه، فماذا وجد مَن فقد الله، وماذا فقد مَن وجد الله، فإذا كان معه فممن يخاف وإذا كان عليه فمن يرجو؟ إنّ ذِكر الله على كلّ حال شيء رفيع الشأو وسامق الشأن، والنّاس تجتذبهم شواغل الحال وهموم المآل، وتستقطبهم معركة الخبز وطبائع الأحياء في تحصيل ضرورات المعاش، وليس هذا موضع الإنكار أو الاستنكار، لكن كيف ينسى العبد سيّده، ويغفل عن ذكر اسمه في بياضه وسواده؟ إنّ هذا المسلك من الإنسان يعبّر عن سوء أدب مع من خلق ورزق، أين حقّه عليك في عقلك وقلبك ولسانك وأعضائك؟ لماذا نحسن الأخذ ولا نحسن العطاء؟ من أجل ذلك، حرَض الإسلام على إدمان الذِّكر كي يتخلّص المرء من سلطان الغيبوبة الّتي رانت عليه، وقيود الشّهوة والسّهوة خلال غواشي اللّيل وسحائب النّهار. والذِّكر الّذي يرحّب الإسلام به ويضعه للمسلم برنامجًا يوميًا وخارطة طريق وبوصلة لا تخطئ، ليس افتعالاً نفسيًا لشيء غائب أو بعيد يقوم الدليل على وجوده أو عدمه، كلاّ بل هو إحساس مطعَم بالمعرفة والحبّ، مفعم بعواطف الرّجاء والخوف حقًّا لصاحب الجمال والجلال ذي الشّهود المطلق القائم على كلّ نفس بما كسبت “فلنقصنّ عليهم بعلم وما كنّا غائبين”. أذكر الله تعالى صحيحًا كنت أم سقيمًا، مسافرًا كنت أم مقيمًا، مسرورًا كنت أم مضرورًا، على كلّ أحوالك، لوّن قلبك، رطّب لسانك وحرّك جوارحك بذِكره، راوح بين التّسبيح والتّحميد والتّهليل والتّكبير، مازج بين مشاعر الرّغبة والرّهبة، فو الله ما خاب مَن ذَكَر ولا ندم، فمن ذا الّذي سأل فلم يعط، ومن ذا الّذي دعا فلم يجب، ومن ذا الّذي آوى فطرد، ومن ذا الّذي جار واستجار فرُفض {فاذكروني أذكُرْكُم واشْكُروا لي ولا تَكْفُرون}. إنّ الصّالحين من عباد الله أقاموا أسواق الدّنيا على المنافسة في سلوك طريق الآخرة، فهي أنفس مطلوب وأغلى مرغوب، غمرهم جلاله وجلا ورهبة وهزمهم جماله شوقًا ورغبة، ما طاشت عقولهم لمحنة فجزعوا، ولا لمنحة فمنعوا، فتساوى عندهم التِبر والطين، أولئك هم الذّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات. الدّنيا فتون ومجون، انطلاق وسكون، والسّعيد فيها مَن عرف قدر سيّده فرقَّى مقامات إحسان عبودية الأنس بمعبوده، ووطَن النّفس على حبّ ذِكر مولاه، ودعاه داعي الشّوق إلى لُقياه. أخي الصّائم، أصل الذِّكر أن تنتصب على قدم الذُّلِّ والفاقة بباب جوده تطلب رضاه وتنشد جداه على أنّك أنت أنت وهو هو، دون تطاول بعلمك ولا استقواء بجهدك ومن غير تجاوز لحدودك. لأجل ترسيخ هذه المعاني، قال العارف بالله والمربي الحكيم ابن عطاء الله السَّكندري: [لو أنّك لا تصل إليه إلاّ بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبدًا، ولكنّه إذا أراد أن يوصلك إليه غطّى وصفك بوصفه ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك لا بما منك إليه، لولا جميل يستره لم يكن عمل أهلاً للقبول]، قال تعالى: {الّذين آمنوا وتَطمِئنّ قلوبهم بذِكر الله، ألاَ بذِكر الله تَطْمَئِن القلوب}. الإمام بولاية ڤالمة