تتحدث وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة عن تعليمة من الوزارة الأولى أرسلت إلى الإدارات في مختلف القطاعات، تنص على إحالة كلّ من بلغ سن الستين على التقاعد إجباريا، وذلك بهدف منح الفرصة للشباب للعمل والتسيير. اللافت للانتباه أو الغريب في الأمر أنّ التعليمة لم تستثن أيّ قطاع، بالرغم من خصوصيّة بعض القطاعات، فالتعليم العالي لا ينبغي أن يمسه هذا الإجراء لكون طبيعة العمل تتطلّب الخبرة والتجربة العاليتين، فكلّما تقدّم الأستاذ في السن كلّما ازداد خبرة علما، ناهيك عن كون البحث العلمي والتكوين الجامعي يتطلّبان عملا مضنيا ووقتا طويلا فليس من السهل الإلمام بكلّ أو أغلبيّة ما في التخصص من معارف والاطلاع على كلّ الدراسات والأبحاث. وإذا نظرنا للموضوع بالنظرة النفعيّة أو الاقتصادية، فإنّ تكوين أو "إنتاج" أستاذ تعليم عالي (بروفسور) أو حتّى دكتور يتطلّب وقتا طويلا ويكلف أموالا طائلة، وبعد أن يتحقق الهدف يحال على التقاعد في الوقت الذّي أصبح قادرا على العطاء وتكوين الإطارات. من النادر أن يصبح الفرد بروفسورا وهو شاب. لنأخذ على ذلك مثالا: حسب النظام القديم (الكلاسيكي) قد لا يتحصل الفرد على شهادة الدكتوراه إلا بعد الخمسين أو أكثر. وبعمليّة حسابية بسيطة أو بمقارنة عابرة ندرك إفلاسنا في التخطيط والتسيير: يخرج البروفسور للتقاعد بمعاش لا يختلف عن أجرته المرتفعة سوى بقليل ويعوّض بأستاذ مبتدئ. أليس من الأفيد اقتصاديا أن يبقى في منصبه؟ ومثلما يعرف الجميع فإنّ العمل الجامعي لاسيما البحث العلمي لا يبدأ بصورة جادة أو واضحة سوى بعد الدكتوراه، ولا يحق للأستاذ- قانونا- تأطير الرسائل والأطروحات سوى بعد الدكتوراه بل أكثر بعد التأهيل الجامعي (عام في ما بعد كأدنى حد)، ولعلّ هذه الأمور هي التّي جعلت الدول المتقدمة تستثني هذا القطاع من الإحالة الإجبارية على التقاعد، ولعلّه أيضا من أسباب تقدّمها وتحضّرها، وهو أمر معمول به في جلّ الدول: للأستاذ الجامعي حرية الاختيار بين التقاعد والاستمرار في العمل. الجامعة هي منارة العلم ومنبع التقدّم والتطوّر، وقاطرة التغيير ولن تسير القاطرة دون سائق ماهر ومتمكّن. قطاعان لا ينبغي أن يعاملا كبقيّة القطاعات: التعليم لا سيما الجامعة والصحة لا سيما الأطباء، ألم نتساءل لماذا لا يُسمح بالجمع بين النيابة البرلمانية والوظيفة سوى للطبيب والأستاذ الجامعي؟ ألم نلاحظ غيّاب شرط السن في التوظيف كأستاذ جامعي أو كطبيب خاصة في الدول المتقدمة؟ ما يمكن أن يُقرأ من خرجة الحكومة هو أنّ الإجراء شعبوي، الهدف منه ضمان المناصب للشباب حتّى وإن كان ذلك على حساب العلم والمعرفة، يندرج ضمن سياسة شراء السلم المدني. لو نظرنا للأمر نظرة أنانية ضيّقة لسررنا، إذ لا أحد يرفض تقاضي المال في راحة دون تقديم أيّ جهد، لكن نظرتنا العميقة النابعة عن كوننا جامعيين تجعلنا نغِير ونستغرب. مكافحة البطالة لا تكون هكذا، إنّما بإيجاد الحلول الجادة والفعّالة. ينبغي علينا كمسيرين أن نتجرد من الأفكار العاطفية وأن نبتعد عن الحلول السهلة بل الواهية، وأن ننظر للأمور بعين الحكيم والمبصر. حان الوقت أن نبتعد عن الحلول "الاجتماعية". وبعيدا عن الإحصاءات والأرقام، فإنّ هذا الإجراء لو طبق سيؤدي لتفريغ الجامعة من عناصر الأستاذية Rang magistral، وبالتّالي تعطيل التأطير والبحث والإسهام في تجذير الرداءة.