أوقفتني امرأة عشيّة ذكرى أول نوفمبر، قالت: أنت كاتب أليس كذلك؟! فأكتب عنّا شيئا، أم أنّنا لا نستحق أن نذكر؟ قلت: أنا يا سيدتي مواطن بسيط من الجزائر العميقة ومهمتي تعريّة واقع أبناء قرية الشقفة، قريتنا الجميلة، قرية ذات نكهة خاصة، ومن لم يأكل من خبز مخابزها لا ذوق له، قرية مرّت بضربات موجعة فعلا، ثمّ أدرت رأسي لم أعثر عليها، فاعتقدت سذاجة أنّها اختفت خلف تذكار قريتنا، أطلّت برأسي رأيت المرأة ولم أر التذكار، حينها طفرت إلى مخيلتي صورة قريتي يوم كان يقصدها الناس من أولاد علال، أولاد زكري، أولاد عبد اللّه، من مناح نائية بعيدة، يجيئونها وعلى تقاسيم وجوههم ابتسامة بريئة والكفّة حينها عامرة، حركة دائبة، سوق رائجة، تجارة رابحة، أليس كذلك؟ ولم يمض وقت طويل حتى اختفى كحل المدينة، وبانت العنقاء وخسرت القرية أرقاما هائلة، وأفرغت القرية، فاعتقد منظرو البلدية ومثقفو البلدة أنّ مشكلتها متعلّقة بالعلاقات الساذجة ولابد أن يدخل ”البراني” لتتكسر هذه العقليات المغلقة، واستفادت القرية من مشاريع سكنية اجتماعية وترقوية وريفية، وشيّدت عمارات في إطار إحياء الأرض الموات ولم تتكسر هذه العلاقات، والزائر لها الآن يصاب بصدمة، أو بسكتة دماغية جراء مشهدها البائس، شوارعها فارغة مفرّغة، ثقافة الهدم ونبذ الآخر والتنكر لكلّ ما هو جميل طغت عليها بفيضها وهبط الذوق الجمالي ولم تعد القرية قرية، وأمسى المرء لا يحسن إلا الدفن، دفن كلّ ما هو شهم وأصيل فاستحالت إلى فنادق للاسترخاء. أوليس من حق القرويّ أن يتساءل عن سرّ هذا المشهد البائس التي آلت إليه القرية لأنّ القرية يعمرها ناسها، ولأني ساعات أقف قبالة المَعلم التذكاري الذي شيّد في العشرية الأخيرة، فإن شكل رسمه الهندسي انعكس على عقليات ساكنيها وسكنتهم السلبية ولم يعد الواحد منهم قادرا على أن يحرك ساكنا أو ينظف حتى ساحة منزله، وبقيت دار لقمان على حالها، حتى إنّ حديقة البلدية لم يطرأ عليها طارئ، لم ترمّم حواشيها، بابها يفتح ويغلق وكأنه آليّ، والمصباح الكهربائي الذي ثبت في مدخلها لا يشتعل، والليل يسربل الأمكنة، ظلمة حالكة، مواء قطط تأتيك وانية ثمّ تتقطع لتختفي. قبل سنوات خلت وقفنا قدّامها، ترحمنا على أرواح شهداءنا الأبرار، شهداء الحرية والوطن وقد وضعنا أكليل أزهار أمام التذكار بحضور السلطات المحلية وانتظرنا اشتعال الأنوار فلم تشتعل، قرأنا الفاتحة واستمعنا إلى النشيد ثمّ غادرنا المكان. مضى وقت ولم يتغير في الحديقة شيء عدا أنها أحيطت بحائط يقيها شرّ الأحمرة التي توافدت في هذه الأيّام الأخيرة، منهم من التقط صورها وصبّها بالفايسبوك نكاية في السلطات المحلية، ومنهم تفاءل خيرا معتبرا إيّاها وسائل نقل حضارية، وهناك من أرجع مجيئها نتيجة الانسداد الذي عرّفته البلدية، والاحتجاجات المتكررة يوميا من قبل مشاتٍ معزولة، أو ليس من حقهم أن يعبّروا عن انشغالاتهم ويمارسون مواطنتهم؟ أم هناك من يعترض؟ فأنا فيما أراه أن غلق بلدية أفضل من غلق طريق عمومية. وقفت قدّام الحديقة كما يقف المواطنون الأحرار لحظة انهزامهم، تناءى إلى مسمعي صوت المرأة متحدية: أمازلت هنا؟ قلت: أنا هنا وسأبقى ثمّ توارى طيفها واحتجب فالتفت لم أر إلا أناسا بسطاء ينتظرون انطلاقة حافلة ما، وفي لحظة انكسار أدرت رأسي قابلتني قائمة لشهداء المنطقة، شهداء فعلا والشهداء ملك الإنسانية برمّتها، رصيدها، أمانتنا جميعا، شهداء كان حلمهم أن يجلس أبناء الجزائر على مقاعد الدراسة ويتصافحوا مع بعضهم البعض ويقفوا قدّام سارية علم واحدة وينشدون وبصوت عال: يا فرنسا قد مضى وقت العتاب. تتبعت القائمة التي نقشت بأحرف واضحة مقروءة، أعدت قراءتها مرّة ثانية قراءة متأنية واعية لم أعثر على اسم امرأة، وهنا عرفت سرّ خطاب تلك المرأة، وتذكرت حينها قصة الرجل الذي باع دابته واشترى امرأة عبارة تحمل في طياتها وجعا دفينا ومن حق المرء أن يتوجع، فالمرأة تاريخها حافل بالمواقف الإنسانية والبطولية ولن يقدر أحد على القفز عنها، إنّها شيء في التربة، شيء في العروق، شيء في الذاكرة الجماعية، فلماذا نسيت ولم يدرج ولو اسم لشهيدة؟ أو لم تشارك في معركة ما، وماذا كانت تفعل؟ هل كانت تغزل غزلا رقيقا، أم كانت تخيّط كفنا؟ وهي من سُبيت من معارك قديما بعد مقتل فارسها، هي التي بيعت في سوق النخاسة، هي أم الشهداء في معركة القادسية، هي المرأة الفحلة التي وقفت جنب محمد، عليه الصلاة والسلام، في الوقت الذي هاجره الآخرون، إنّها خديجة بنت خويلد عليها رضوان اللّه، هي المرأة أسماء بنت أبي بكر الصديق القائلة، بعد أن رأت ابنها مصلوبا: ”أما آن لهذا الفارس أن يَتَرجّل”، هي المرأة المقاومة لالا فاطمة نسومر، المرأة المناضلة والمكافحة والمقاتلة جنب الرجل، هن الجميلات في تاريخ ثورة نوفمبر المباركة، يوم كان التوقيت للنار، الشهيدات مليكة ڤايد، جميلة بوعزة، وريدة مداد، مريم بوعتورة والمجاهدة والمناضلة جميلة بوحيرد أطال اللّه عمرها، وقوافل الشهداء قائمتها طويلة ومؤلمة من يوغرطة إلى ماسينسا إلى الأمير عبد القادر إلى الإمام ابن باديس إلى العربي بن مهيدي، أوليس تَغيّب اسم شهيدة نكران للجميل؟ أو ليس عنفا وتعنيفا معا؟ أو ليس جريمة ترتكب في حقّ التاريخ والذاكرة الجماعية؟ أليس هذا اغتصابا وقفزة في الظلام؟ [email protected]