هل رأي المدعوين إلى مكتب أحمد أويحيى لمناقشة مشروع الدستور الجديد تكون له آذان صاغية، أم أن الطبخة جاهزة، وهذه اللقاءات ما هي إلا مجرد عروض لأخذ الصور التذكارية وملء عناوين الصحف ونشرات اليتيمة؟ المستقبل القريب سيجيب بكل صدق، بعيدا عن كل التأويلات والمواقف السياسية المختلفة منها المؤيدة أو المعارضة. لكن هذا السؤال يفرض نفسه بنفسه، لأن النظام عوَّدنا دائما على محاورة ذاته واستنتاج ما يراه صالحا لديمومته على عرش السلطة، وأنه لا يحاور إلا من يختاره حسب مقاييسه ليضع في آخر الأمر الجميع أمام الأمر الواقع، ولم يكن هدفه في كافة المشاورات السابقة سوى تضليل الرأي العام الداخلي والخارجي، ليتظاهر أنه متفتح ومنفتح لسماع والأخذ بالرأي المخالف، حتى يضع في نهاية المطاف في أدراج النسيان كافة المقترحات التي لا تساير توجهاته. وما يدعونا كذلك للتساؤل هو استدعاؤه لكافة الشخصيات الوطنية والسياسية والدينية والجمعوية، وحتى الإرهابية، مستثنيا مكونا أساسيا من شعبنا المتمثل في الفاعلين والناشطين والباحثين والسياسيين في الحركة الأمازيغية. مما لا شك فيه أن النظام تعمّد تغييب عنصر الأمازيغية، الذي هو مطلب من المطالب الشرعية لشرائح عريضة من المجتمع الجزائري، تحت غطاء الحفاظ على ثوابت الأمة ووحدتها وذلك لغرض في نفس يعقوب. هذه المشاورات تدفعنا لذكر بعض المعاناة التي عاشها، ولا يزال يعيشها، هؤلاء المهمشون الغيورون على ثقافتهم ولغتهم. عند فجر الاستقلال واغتصاب الشرعية من قِبل جيش الحدود الذي أسس نظاما أُحاديا، إقصائيا، ضيق التصور، مبعدا كل من لا يتماشى مع منهجيته المشابهة للنظام الاستعماري الذي طُرِد اسميا ومكث منهجيا في ممارساته الغاشية الظالمة. لقد أُسِّسَ على وحدة الثقافة والتصور والتفكير واللغة، معتمدا على إقصاء شرائح عريضة من مكونات الشعب الجزائري، من قبائل جرجرة وشاوي النمامشة وشناوي شرشال ومزاب غرداية والتوارڤ بالجنوب الجزائري. رغم هذا التعنت لم يفلح النظام في القضاء على هذه الثقافة، شأنه شأن الحركة الوطنية التي انقلبت رأسا على عقب، بعد اللقاء المشؤوم لمصالي الحاج مع مؤسس البعث والقومية العربية شكيب أرسلان عام 1932، حيث تم إقصاء البعد الأمازيغي من مكونات الهوية الوطنية، ليبدأ مسلسل عزل وتهميش كل من شُكّ في تعاطفه مع هذه الثقافة. منهم: صادق هجرس وحسين آيت أحمد وإيدير آيت عمران وخليفاتي محند أمقران وعلي يحي رشيد وغيرهم. ووصل الأمر إلى حد التصفيات الجسدية، حتى لا نسميها عرقية، ومن بين الضحايا: مبارك آيت منڤلات واعمر ولد حمودة وبناي وعلي، وذنبهم الوحيد التعاطف مع القضية البربرية، رغم وفائهم للقضية الوطنية والثورة إلا أن هناك من رأى أن تصفيتهم أولى من طرد فرنسا. إن جُلّ العناصر المؤطرة للحركة الوطنية والمحركة للثورة المنحدرين من منطقة القبائل تمت تصفيتهم جسديا أو هُمِّشوا عمدا. فلم تشفع لهم وطنيتهم ولا انتماؤهم للمنطقة التي رأى فيها النور بيان أول نوفمبر بإغيل إيمولا ولاية تيزي وزو ومؤتمر الصومام سنة 1956 بإفري ولاية بجاية. لقد شنق غدرا مهندس الثورة التحريرية عبان رمضان، وارتكبت جريمة شنعاء في حق أسد جرجرة عميروش وسي الحواس حيث رميت جثتاهما في زنزانة الدرك الوطني إلى غاية عام 1978. لقد حرما مدة 19 سنة من الدّفن في التراب الذي سقطا من أجله، وهذا للقضاء على أسطورة عميروش القبائلي. من الخزي والعار أن يُقْتَلَ مرتين رجلان زلزلا الأرض تحت أقدام الاستعمار لأسباب حقيرة، سفيهة، وتافهة. هُمِّشَ من كانت فرنسا تطارده منذ 1945 الملقب بِلَيْثِ الجبل: المرحوم كريم بلقاسم، ممضي بيان اتفاقية إفيان في 18 مارس 1962. وأُجْبِرَ على مغادرة الوطن الذي أفنى شبابه في خدمته، ولكن هذا لم يشف غليل الحاقدين فتبعوه إلى الغربة وخنقوه بربطة عنقه بإحدى فنادق فرانكفورت بألمانيا سنة 1970. هُمَّشَ من أُرْغِمَ على التمرد ضد الظلم والطغيان، ومن مثَّلَ لأول مرة الدبلوماسية الجزائرية في مؤتمر بوندق عام 1955، رئيس المنظمة السرية التي مهدت الدرب للثورة التحريرية: السيد حسين آيت أحمد، ليُحكم عليه بالإعدام ثم بالمؤبد حتى هروبه من السجن عام 1966. يا ترى، هل كل هذا مجرد صدف؟ تبا لهذه الصدف التي ابتلي بها الأمازيغ عامة، والقبائل خاصة. أطلّ الاستقلال باحتشام على منطقة القبائل بعد نهر من دماء خيرة أبنائها، فأسيلت ثانية دماء جديدة ل453 مجاهد بسلاح الجيش الوطني خلال انتفاضة الأفافاس ضد الديكتاتورية عام 1963، ليرتفع عدد الثكالى واليتامى والأرامل ضريبة دم جديدة يدفعها أبناء المنطقة في سبيل جزائر جزائرية متعددة متنوعة وديمقراطية. هذه الجزائر التي رفضها الذين استولوا على الحكم ليفرضوا نظاما استقصائيا أحاديا، وقد أفصح عنه بن بلة في خضابه بتونس قائلا: “نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب”، متجاهلا وناكرا الهوية الحقيقية للشعب الجزائري. هذا القمع دفع بعض المناضلين إلى إنشاء أكاديمية: “أقراو إمازيغن” (Académie berbère) بفرنسا حتى يَفُكُّوا الحصار عن الأمازيغية ويساهموا في ترقيتها، لكن النظام لم يهادنهم حتى في ديار الغربة. وبتواطؤ السلطات الفرنسية تم طرد رئيسها بسعود محند اعراب إلى بريطانيا سنة 1978، حيث عاش حتى وافته المنية. الاضطهاد المستمر أدخل ناشطي القضية في العمل السري إلى غاية مارس 1980 لما منع والي ولاية تيزي وزو مولود معمري من إلقاء محاضرة حول الشعر القبائلي القديم، فكانت هذه الحادثة القطرة التي أفاضت الكأس. فكَرَدِّ فعل للظلم والطغيان الذي دام 18 سنة انتفض الشارع القبائلي ضد الديكتاتورية والشمولية ونكران البعد الأمازيغي. يوم 20 أفريل 1980 اقتحمت قوات الأمن حرم جامعة تيزي وزو ليلا بعنف شديد، وانتشر الخبر بسرعة فانتفضت المنطقة بكاملها. وجواب النظام كان القمع المعهود، حيث تمَّ اعتقال جماعة من المناضلين المعروفين فيما بعد بجماعة 24، من بينهم سعيد خليل وسعيد سعدي وجمال زناتي وارزقي آيت العربي وارزقي عبوط وعلي براهمي وفرحات مهني والمرحوم مصطفى باشا. امتد تحرّش النظام الأخطبوطي إلى كل ما له صلة بالهوية الأمازيغية، ففي سنة 1985 اتُّهِمَ باطلا رمز الأغنية القبائلية الملتزمة “لونيس آيت منڤلات” بحيازة ترسانة من الأسلحة. تهمة لا يمكن أن يصدّقها عاقل، نظرا لشهرة هذا الفنان بصفة السلم والسلام والحكمة والرزانة، ليتضح في آخر الأمر أن هذه الترسانة من الأسلحة الفتّاكة المزعومة ما هي سوى بنادق صيد قديمة غير صالحة للاستعمال كان الشاعر يجمعها كتحفة فنية لا غير، ورغم هذا سُجِنَ على الطريقة الستالينية. لكن هذا الحبس التعسفي لم يغيّر شيئا من عزيمة الفنان، ولم يقبل بالمنفى الذي دُفِعَ إليه كثير من رفاقه في الفن. وفي السنة نفسها أنْشِئتْ أول رابطة جزائرية لحقوق الإنسان بمبادرة علي يحي عبد النور وفرحات مهني وهاشمي نايت جودي وحسين زهوان وعبوط أرزقي وسعيد خليل وسعيد سعدي، وعدد آخر من المناضلين والحقوقيين، فكان مصيرهم سجن سركاجي ولامبيز ومحكمة أمن الدولة. دام هذا الصراع مع النظام إلى غاية أحداث أكتوبر 1988. فما إن اشتغلت نيران الانتفاضة بالجزائر العاصمة حتى دُفِعَتْ مجددا إلى التمرد والالتحاق بالثورة التي أطاحت بحكم الحزب الواحد، وهذا بعدما أطلق دركي النار بسلاح حربي على معطوب الوناس بمدخل مدينة عين الحمام. أصبح الاضطهاد قاعدة السلطة، وأمسى سكان المنطقة يقيسون الزمن بعدد الضحايا وكمية الدماء المسيلة في كل مرحلة. بعد الانفتاح الديمقراطي الظرفي، وفي ظل الدستور الجديد، حاولت الأمازيغية إيجاد مكانتها الطبيعية متوهمة بأن ساعة الحسم قد حانت للاعتراف بها، ولهذا نظمت الحركة الثقافية البربرية mcb أول مسيرة مرخصة بالعاصمة يوم 25 جانفي 1990. كانت حاشدة، منظمة وسلمية، سلمت خلالها لائحة المطالب إلى رئيس المجلس الشعبي الوطني من قبل الراحل معطوب الوناس وجمال زناتي. من بين المطالب: إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية والاعتراف بها كلغة وطنية ورسمية بجانب اللغة العربية. ورغم التعبئة الناجحة لم يجب النظام إلا بقبول إدخالها إلى جامعتي تيزي وزو وبجاية. في سبتمبر 1994 قررت الحركة البربرية الدخول في إضراب مفتوح سمي ب«إضراب المحفظة”. قاطع الطلاب المدارس بجميع أطوارها، من الابتدائي إلى الجامعي، للضغط على النظام حتى يفكّ الحصار عن الأمازيغية والاعتراف بها كلغة وطنية ورسمية وإدراجها في المنظومة التربوية. وعوض أن يتخذ قرارات حكيمة وشجاعة لجأ كعادته إلى الحيلة والمراوغة، حتى اقتربت المنطقة من الانزلاق إلى ما لا يحمد عقباه، خاصة بعد اختطاف رائد الأغنية الملتزمة معطوب الوناس. بعد سبعة أشهر من المفاوضات الفاشلة تمكّنَ النظام من إجهاض الإضراب. وأُهدر عام دراسي كامل من حياة أبنائنا مقابل إنشاء المحافظة السامية للأمازيغية hca، وهي هيئة بلا روح ولا قوة لم تفلح في إدراج هذه اللغة في المنظومة التربوية كمادة محترمة. بعد ثلاثة أعوام تمّ اغتيال المطرب الذي كان يهزّ المنطقة بأغانيه الملتزمة، ويقول جهرا ما كان يفكر به ذويه صمتا، ألا وهو معطوب الوناس، فبدأت الاشتباكات العنيفة مع قوات الأمن والشعب ساخط على هذه اللعنة التي تطارده دون هوادة. كل عام يحتفل الأمازيغ بربيعهم بطريقة سلمية، حضارية ومنظمة دون أي حادث يذكر، ولكن في الذكرى الواحدة والعشرين من هذا الحدث (2001) أرادت السلطة القائمة، التي تعوّدت على الصيد في المياه العكرة، أن تفسد هذا الجو الهادئ وتستفز المحتفلين، فارتكب دركي جريمة لا تغتفر داخل ثكنته بأث دوالة، إذ أطلق النار على طالب ثانوي “ڤرماح ماسينيسا” فأرداه قتيلا دون أدنى سبب. وبطبيعة الحال هذا الاغتيال هيَّجَ مشاعر الشباب. وكان على الدولة إطفاء النار الموقدة بتسليم المتهم إلى العدالة وتقديم اعتذار رسمي لأهل الضحية وللسكان، كما تفعله الدول المحترمة، لكن خرج وزير الداخلية آنذاك، يزيد زرهوني، واصفا الشاب ماسينيسا بالوغد، وكان هذا كافيا لتنتفض منطقة القبائل كاملة، ويكون رد فعل النظام قمعيا ووحشيا، ويحصد برصاص الدرك الوطني روح 127 شاب في مقتبل العمر فارغي الأيدي، خرجوا مسالمين ليندّدوا بالجريمة الشنعاء، وهذا دليل بعد ألف دليل من قبل بأن أرواح القبائل عند السلطة لا قيمة لها، وأن زهقها لا يستحق أي حساب أو عقاب. أليس من حق أبناء المنطقة أن يَصِفُوا ما حدث بالتصفية العرقية؟ بعدما حصد النظام كل هذه الأرواح وبعدما استفز وأهان جميع سكان القبائل، كوّن بأمر من رئاسة الجمهورية لجنة تَقَصّي الحقائق تحت إشراف البروفيسور محند إسعد، الذي تَوصل في نهاية تقريره إلى تساؤلات عديدة منها: - من أمر بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين؟ - من يقف وراء أحداث الربيع الأسود؟ - من ومن..؟ لقد صدق حسين آيت أحمد حين قال: كلما أراد النظام أن يخنق قضية ويخفي حقيقة يكوِّنُ لها لجنة للتحقيق. لقد توفي الأستاذ إسعد، ومازالت تساؤلاته بلا أجوبة وتقريره حبر على ورق، والمسؤولون أحرار طلقاء، سواء الذين كانوا وراء هذه الجريمة أو التي قبلها، كردع أكبر مسيرة في تاريخ الجزائر يوم 14 جوان 2001 وغيرها من الأحداث. إن النظام الجزائري، منذ نشأته، حاول بكل ما أوتي من قوة طمس كل معالم الأمازيغية، لغة وهوية وثقافة. لقد عرّبَ أسماء المدن والأماكن لسلخها من هذه الثقافة ومنع الأولياء من تسمية أبنائهم بأسماء ذات أصل أمازيغي. فوصل به الأمر إلى عدم تحمّل سماع كلمة “قبائلي”، فلم يكن يطيق حتى اسم فريق شبيبة القبائل لأنه يحتوي على هذه الكلمة التي تهيّج مشاعره، فغيّر تسميتها باسم تافه لا معنى له وهو “جمعية سريع الكواكب” للتخلص من كلمة “قبائل”، ثم أعاد تسميتها ثانية إلى “شبيبة إلكترونيك تيزي وزو”. لِمَ إقصاء الوطنيين والمثقفين الأمازيغ واستدعاء الإرهابيين الذين أركعوا الجزائر وذبحوا أبناءها وقضوا على نخبتها كشخصيات وطنية لاستشارتهم على مستقبل البلاد والعباد؟! يا للخيانة، يا للفضيحة، يا للعار. أهؤلاء المرتزقة أكثر شأنا من المفكرين والمناضلين المسالمين أمثال: سالم شاكر ورمضان عشاب وحسن حيرش وسعيد شماخ ومحند ارزقي فراد وتسعديت ياسين وبلقاسم خدام؟ لقد أثبتت التجربة الميدانية أن التعدد اللغوي عنصر من عناصر الوحدة والتكتل والقوة، فالهند وجنوب إفريقيا وسويسرا وساحل العاج وبولندا وكندا بلدان اعترفت رسميا بعدة لغات لتتصدى لكل ما يهدد بنيانها وتمسكها الاجتماعي، والأدهى حتى إسرائيل، الدولة الصهيونية المعادية للعرب، اعترفت باللغة العربية لغة رسمية الى جانب العبرية. ليعلم النظام أن الاعتراف بالأمازيغية كلغة رسمية لن يزيد الجزائر إلا تمسكا وحصانة وقوة لصدّ أبواب المغامرة ونصب المسمار في نعش الانشقاق والانسلاخ، وعليه أن يعود إلى رشده لحماية البلاد ومصالحة شعبه وتاريخه وأصالته.