تتضمّن مسألة تبذير المال العامّ بُعدا أعمق من البُعد الذي يُراد له أن يكون المشكلةَ كلُّها، حيث إنّ معالجة الحكومة لهذا الشأن فيه الكثير من التوجيه والبرمجة، حتّى يعتقد أحدُنا أنّ التبذير هو مسألة تتعلّق بالإسراف في صرف المال فقط، وأنّ الحلّ يكمن بالتالي في تقليص المصاريف إلى أقصى ما يمكن، وهذا، فيما أرى، فرعٌ لا أصل، وعرَضٌ لا جوهر، ما يؤكّد عدم جدّية الحكومة في معالجة هذه القضية كغيرها من القضايا، وذلك بالتركيز على الأعراض والنتائج، وليس على الأسباب الحقيقية والأصول. إنّ تبذير المال هو الوجه الآخر لإهدار الكفاءات، وتهجير العقول، وعدم استغلال الثروات على الوجه الصحيح، كلُّها فرعٌ لأصلٍ واحد، هو طريقة التفكير غير الصحيحة، والنّظر الزائغ للثروة المادّية أو البشرية، وهذا يدلّ على عدم تقدير حقيقي لهذه الثروات، وجهلِنا بقيمتها البالغة مهما ادّعَينا عكس ذلك، وطريقة صرف المال العامّ دليل على هذا الكلام، فعندما نبني منشآت للنهوض بالتنمية المحلية لكن بتخطيط سيء، فإنّها لن تحقّق أهدافها، وهذا وجه من أوجه التبذير، وكذلك الشأن عندما ننجز طرقات نضطر إلى إصلاحها فيما بعد، وهذا يعني أنّنا لا نشعر بأنّنا مسؤولون حقّا على المال العامّ أمام الله أوَّلاً، ثمّ أمام الشعب، ولذلك يخفّ وطء الضمير، فالطريقة التي ننظر بها إلى هذه الثروة خاطئةٌ منذ البداية. إنّ احترامنا للثروة والشعور بالمسؤولية تجاهها هو أساس التقشّف الذي تدعو إليه الحكومة، وما لم نُغيّر طريقة نظرنا للمال العام، فإنّ التبذير سيبقى حاضرا في صرف المال، لأنّ العقل المسيّر للمال هو عقلٌ لا يعرف حقّ هذا المال، ولا يهمّه أن يصبّ حقّا في المصلحة العامّة أوْ لا، ولذلك يفقد التّقشف معناه الحقيقي ويُضيع هدفَه، فالمشكلة عميقة ضاربةٌ بجذورها في عقولنا وأفكارنا، ومن أجل ذلك جاءت التربية الإسلامية، لتُعلّم المسلم أنّ الإسراف في حدّ ذاته حرام، فقد رأى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، سعد ابن أبي وقاص يُكثر من صبّ الماء أثناء الوضوء، فنهاه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فقال سعد رضي اللّه عنه: “أفي الماء إسراف يا رسول اللّه؟”، قال: “نعم، وإن كنتَ على نهر جارٍ”. وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصلاة والسلام: “نعم، وفي كلّ شيءٍ إسراف”. فإذا تعلّم المرءُ هذا المبدأ وتربّى عليه، صار سجيّةً عنده فلا يُسرف في القليل ولا في الكثير. الحاصل عندنا أنّ التبذير صار سجيّةً عند المواطن والدّولةِ سواءً بسواء، فمظاهر الإسراف عند المواطن كثيرةٌ جدّا، وعجيبة أحيانا، خاصّة عندما نجدها عند الفقراء وذوي الدّخل المحدود. وأمّا تسيير الشأن العامّ فحدّث ولا حرج. عندما اعتمدت فرنسا سنة 1975 توقيت الصيف، كانت تهدف إلى الاستفادة إلى أقصى حدّ ممكن من ضوء الشمس حتىّ تقتصد في استغلال الطاقة، وكان من نتائجها أنّها وفّرت على نفسها استهلاك 250 ألف طن من البترول، وهذا بزيادة ساعة واحدة في الصيف (من نهاية مارس إلى نهاية أكتوبر)، كما وفّرت على نفسها أيضا استغلال 7.0 إلى 2.1 مليار واط من الطاقة سنويا، حسب إحصاءات أجريت بين 1996 و2006. هذا الإجراء على ما فيه من محاذير وأخطار على صحة الإنسان، إلّا أنّه يدلّ على شعور كبير بقيمة الثروة المستغَلّة، وهذا ما نفقده نحن، إذ كثيرا ما تبقى مصابيح الإنارة العمومية مضاءةً حتى بعد طلوع الشمس، وما يقال حول تبذير المال العامّ يقال أيضا حول إهدار الثروة البشرية، فصِرنا لا نعرف لعقولنا قدراً إلّا بعد أن تهاجر البلاد، أو تبقى في البلاد وتُهاجرها عقولُها وأفكارُها، فالمرض واحد وأعراضه مختلفة. [email protected]