تحرير الاقتصاد، هو شعار المرحلة الذي يرفعه جزء من الباترونا. العنوان من حيث الشكل يغري ويشجع على النظرة بتفاؤل نحو الأفق، لكن الواقع يكبح التحليق بعيدا في التفكير. فإنجازات دعاة تحرير الاقتصاد تدعو إلى الريبة.. استفادوا من مال مشاريع لم يقدروا على إنجازها بمواصفات مقبولة، فالطريق السريع شرق غرب، في بعض أجزائه، ورشة مفتوحة تبتلع المزيد من الأغلفة المالية. عندما تطرح الحكومة فكرة إعادة تنظيم المؤسسات الاقتصادية في شكل جديد، فهي تعترف بصوت خافت جدا عن عجز في صياغة تصور عملي لكيفية تجاوزها إشكالية اقتصاد مبني على مداخيل النفط والغاز. وعلى ما يبدو، ليس للحكومة رد آخر على تراجع مداخيلها، إلا باللجوء إلى حيلة إعادة تنظيم المؤسسات، لترك انطباع أنها تتفاعل إيجابيا مع أزمة جادة، وهو الأسلوب السائد منذ أزمة 1986، حيث انتقلت من صيغة المؤسسات الكبيرة إلى تفتيت النسيج تحت عنوان إعادة هيكلة المؤسسات ثم إلى المجمعات وصناديق المساهمة.. نحن الآن نعيش نفس السيناريو، سياسة اقتصادية تحت مسميات جديدة، تقفز إلى المجهول. وما بقي معلوما، حسب التجارب السابقة، أن إعادة “تنظيم” المؤسسات ستكون الطريق التي ستسهل من عملية خصخصة بعض المؤسسات، أو فتح رأسمالها، ليستفيد نادي المستثمرين المحظوظين من عقارات مؤسسات عمومية، كان يفترض أن تكون مفخرة الجزائر، لكنها تحولت إلى عبء بفضل سياسة نظام أولويته البقاء في الحكم ولو بتبذير طاقات البلد. هناك مؤشرات على وجود نية استخدام أمر واقع المؤسسات العمومية، لتبرير بيعها. والتجربة السابقة أو الحالية لصعود قوة بعض رجال المال، وتزايد تداخل المال مع السياسة، هي عوامل لا تدعو إلى التفاؤل، بل تدفع إلى تنشيط الحذر إلى حدوده القصوى. من الناحية النظرية ومبدئيا، الجزائر محكوم عليها بتحرير اقتصادها، لكن ليس بأي شكل وليس لأي أحد. كما هي ليست ملزمة بالتفريط في ممتلكات عقارية باسم الخصخصة. يمكنها تحرير المنافسة بقوانين دقيقة، تجعل الخاص يدخل النشاط بنفس شروط العمل، وهذا غير متوفر اليوم. فالخواص ليسوا كلهم على نفس الدرجة من المساواة، منهم من يستفيد ومن غير عناء من التسهيلات والمساعدات للحصول على المشاريع، في حين تبقى الأغلبية في مستوى المؤسسة الخادمة، تنجز مشاريع الآخرين. والجو السائد، ليس مناسبا للحديث عن قطاع خاص ملتزم بقضايا الوطن. هناك احتكار للمال وللمشاريع. وأكثر من ذلك، نشهد منذ أشهر إعادة تنظيم طريقة عمل جزء من الباترونا. ومن المحتمل جدا أن من بين الأهداف، جعل الاحتكار السائد ليس مجرد حالة عرضية، وإنما ترقيته إلى مستوى تنظيمي، يجعل من هذا النادي المرجع الروحي في صياغة وتنظيم سوق الشركات في الجزائر، بشكل يسهل معاقبة أو مكافأة هذه الشركات. أين تكمن مسؤولية الحكومة في الحفاظ على مصالح الأمة؟ السؤال مفتوح، لكن قبل الإجابة عليه، هناك سؤال آخر: من فتح خصخصة بعض الشركات العمومية زمن الانشغال بالإرهاب بذاك الشكل، رافعا مبرر إعادة تنظيم الاقتصاد والرغبة في التخلص من الاحتكار، وتحكيم العمل لقواعد المنافسة؟ من قام بذلك؟ أليست الحكومة هي من خلق تلك الأجواء التي تشبه أجواء العيد والفرحة بأفق واعد، يكون فيها القطاع الخاص الجزائري قدوة بفضل إنجازات نموذجية؟ فأين وصل قطار هذه الإصلاحات اليوم؟ تم توريث أصول شركات عمومية لرجال مال قاموا بأعداد كبيرة بإعادة بيع العقارات بسعر السوق. وطبيعي أن يكون وصولنا اليوم، هو وصول إلى ساحة مكشوفة يحكمها قانون الغابة، فالقوي وضع قائمة كتب عليها بالأحمر مواصفات الشركات التي يجب خنقها. ولأنهم أذكياء، ولا يريدون الظهور بمظهر من يستعد للقضاء على المنافس بأي شكل غير قانوني، نجدهم منفتحين على تجارب دول أخرى للاستفادة. فمن المغرب مثلا، أعجبهم تطبيق النظام سنة 2000 فكرة وضع ضوابط باسم المنافسة بين الشركات الخاصة، تكون الغطاء لتبرير موت مؤسسة من المؤسسات. فمثلا في الصحافة، تقرّر خنق الصحف التي تتجرأ وتحقق في صرف المال من قبل العائلة الملكية، بطريقة اقتصادية، تطبق على مراحل ومن غير مواجهة مكشوفة. وبالفعل تم بعد سنوات من بداية تطبيق المخطط، اغتيال أكثر من عنوان، كنتيجة لمنع المعلنين عنه. وبدا الأمر على أنه قانون اقتصاد السوق والمنافسة. وفي الجزائر نعيش نفس التجربة منذ أشهر، حيث تسود مرحلة جديدة من “منافسة” لا علاقة لها بالشرف ولا بالاقتصاد، إنما هي قبضة تسعى لتوجيه الرأي والتحكم في الإعلام، كمدخل يفتح الأبواب واسعة أمام ما ينتظر ممتلكات ما تبقى من القطاع العام، ليتم توريثها باسم حرية اقتصاد ومنافسة لا وجود لهما إلا في المقابر. ومن دون التعرض إلى المخطط، نزلنا إلى مستوى لا يحسدنا عليه عدو، بل يتمنى أن نظل عليه. نزلنا إلى مستوى “البانديتيزم” في التفكير وفي صياغة مشاريع الغد. وتجد مثل هذه المشاريع الهدامة من يرعاها حتى في الخارج، فتمكين إخفاء المال الوسخ تحت مسميات أخلاقية وقيمية سامية، كضمان “حماية الحرية الفردية”، من خلال ضمان سرية التحويلات المالية، تجعل بنوك دول أوروبية وحكوماتها راعية للفساد، وراعية للإرهاب ومرقية له. حسابات تضمن نومة مريحة لأموال الرشاوى وللتهرب الضريبي، بجنب حسابات تعمل في تجارة السلاح والمخدرات والجنس والإرهاب. [email protected]