الحديث عن العظماء شرف والكتابة عنهم تزيد صاحبها منهم رِفعة وقُربًا، ولكن إذا تعلّق الأمر بأستاذ الإنسانية ومبعوث العناية الإلهية وشمس الهداية الرّبّانية، فإنّ لذلك الحديث والثناء معنى آخر لا يشعر به إلاّ مَن كان في دعواه مُحِبًّا لصاحبه، فهو صاحب الشّفاعة والوسيلة والدرجة الرّفيعة. يعيش المسلمون في هذه الأيّام النّورانية ذِكرى مولد الهُدى محمّد صلّى الله عليه وسلّم ونحن نستشعر تلك المعاني والجواهر والأبعاد الحضارية الّتي ولدت معه أو مع بعثته صلّى الله عليه وسلّم، ولا بأس أن نجملها في جواهر خمس: فبميلاده صلّى الله عليه وسلّم استجيبت الدعوة وتحقّقت البُشرى، قال صلّى الله عليه وسلّم: “أنَا دعوة أبي إبراهيم وبُشرى أخي عيسى”، فإبراهيم عليه السّلام لمّا بنى البيت العتيق سأل ربّه فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} البقرة. أمّا عيسى عليه السّلام فقد بَشَّر قومه بمَقدمِه فقال سبحانه: {وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} الصف. واكتمل بميلاده صلّى الله عليه وسلّم بُنيان الأنبياء، فهو اللَّبنة الأخيرة ورسالته الخاتمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “إنّ مثلي ومَثل الأنبياء من قَبْلي كمَثَل رجُل بَنَى بيْتًا فأحْسَنَهُ وأجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاّ وضعتَ هذه اللّبنة، قال: فأنَا اللّبنة وأنَا خاتم النّبيّين”. وبمولده صلّى الله عليه وسلّم وبعثته رسولاً للنّاس مؤيّدًا بالقرآن عاد التّوحيد الخالص كما كان على دين إبراهيم، إذ كان العرب حينها في جاهلية جهلاء، وفي ظلمات بعضها فوق بعض وصفها الله تعالى فقال: {هُوَ الّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّين رسولاً مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِمُ آياتِهِ ويُزَكّيهم ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِين}. وُلِد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع بعثته وُلِدَ العدل والمساواة بين النّاس جميعًا، لا فَرْقَ بين غنيّ ولا فقير ولا مأمور وأمير ولا بين عظيم ولا حقير، فعَن أسامة بن يزيد رضي الله عنه إنّ امرأة من بني مخزوم شريفة سرّقت، فقالوا: مَن يُكلِّم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فكلّمَه أسامة رضي الله عنه، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: “أتَشفعُ في حدٍّ من حدود الله، ثمّ قام فاختطب ثمّ قال: إنّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ، وَايْمَ اللهُ لو أنّ فاطمة بنت محمّد سَرَقت لقطعتُ يَدَهَا”. بل إنّ العدل الّذي جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم برّأ يهوديًا وأدان مسلمًا، فقال سبحانه: {إنّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتابِ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنين خَصِيمًا} النّساء. وُلِد رسول الله عليه وسلم ومع بعثته ولد العِلم والحثّ عليه، فكان أوّل ما نزل الأمر بالقراءة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذِي خَلَقَ} العلق:1. ووسيلة العِلم {الّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم} العلق. وحَثّ على طلب العِلم، وبهذا ساد الإسلام ومنح لعلمائه أستاذية العالم في شتّى الميادين. وُلِد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع بعثته وُلِدَت المرأة الّتي كانت عورة وسوأة وعارا في البيت الّذي تكون فيه: {وَإذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} الزُّخرُف. وهو الّذي كان يُبْكي عمر رضي الله عنه. فأكرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المرأة بنتًا وأُختًا، فعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “لا يكون لأحد ثلاث بناتٍ أو ثلاث أخوات فيُحْسِن إليهنّ إلاّ دَخَلَ الجنّة”، وأكرمها زوجة فقال صلّى الله عليه وسلّم: “خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِه وأنَا خيرُكُم لأهلي”، وأكرمها أُمًّا فجعل الجنّة تحت أقدامها، وجعلها شقيقة الرّجل وشريكة له في الحياة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “إنّما النّساء شقائق الرّجال”، فأصبحت المرأة بفَضل محمّد صلّى الله عليه وسلّم عالمة مجاهدة مربّية سياسية جنبًا إلى جنب مع الرّجل وِفْقَ ضوابط تَحفَظ خصوصيتها وأنوثتها: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤمنات بَعْضُهُم أولياءُ بعضٍ يَأمُرُون بِالْمَعروفِ ويَنْهَوْنَ عنِ الْمُنْكَر ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزّكَاةَ ويُطِيعونَ اللهَ ورَسُولَهُ أولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} التّوبة. من أجل هذا الّذي ذكرناه، وهو غيض من فيض وقطرة من بحر، نحتفي ونحتفل بميلاده صلّى الله عليه وسلّم، فمهما قُلنَا أو وصفنا فهو دون وصف الله عزّ وجلّ الّذي قال: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم. فاللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِدْ وبارِك عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.