المدرس، باب زير، درب السلسلة، باب علي، سيدي الجبار، أسماء لأحياء شعبية تشكّل المدينة العتيقة لعاصمة الزيانيين، تلمسان، يفترض أنها في دولة تحترم تاريخها وتراثها، تشكّل موردا ثقافيا وسياحيا هاما لا يقدّر بثمن، إلا أنها تحوّلت وبامتياز إلى بؤرة تجسّد البؤس الاجتماعي في أتعس صوره، مثلما وقفت عليه “الخبر” بحي باب علي. سكان الحي بصوت واحد: “نحن جزائريون مع وقف التنفيذ” كعيّنة لمعاناة سكان المدينة العتيقة، السيدة مسعودي، أم لعائلة متكونة من خمسة أفراد، أصغرهم رمزي صاحب الأربع سنوات، والمصاب بمرض الربو، بسبب ارتفاع الرطوبة في الغرفة التي وجدناه فيها نائما. السيدة صرخت بأعلى صوتها: “بعد خمسين سنة من الاستقلال لم نحصل بعد على سكن.. وأكثر من هذا ابني الصغير مصاب بالربو وابنتي البكر انقطعت عن مقاعد الدراسة.. نحن جزائريون أبا عن جدّ، ولكن أصبحنا نشعر أن جزائريتنا موقوفة التنفيذ”، وأضافت السيدة ساخرة “أدعو المسؤولين وأبناءهم للمبيت عندنا ليلة واحدة، بحوش حي باب علي.. وأنا متأكدة أنهم لن يذهبوا بعدها للانتخابات ولن يصدّعوا رؤوسنا بخطابات الوطنية الجوفاء. انظر البئر الوحيدة التي كنا نتزود من مائها ردمتها الأحجار والأتربة، والمرحاض الوحيد الذي كانت تستعمله ثلاث عائلات ردم أيضا. الشمس لا تدخل غرفنا الترابية، ونضطر إلى رفع الألبسة والأغراض التي نغسلها على القصب كي تجف في عزّ فصل الشتاء”. ليتدخل زوجها السيد مسعودي، الذي يعمل موظفا بالبلدية: “نحن نقيم بالحي منذ سنة 1996. زوجتي وكل أولادي ولدوا هنا. سنة 1997 أودعت طلبا للحصول على سكن اجتماعي تحت رقم 12206 بتاريخ 3 مارس 1997، ورغم المحاضر واللجان التي عاينت المكان الذي نقيم فيه كما ترى، في غرفة واحدة.. ابني الكبير، عمره 20 سنة، وابنتي صابرين، سبع عشرة سنة، في غرفة واحدة.. وفي كل مرة تعلق فيها قوائم السكن الاجتماعي يتم إقصاؤنا لأسباب غامضة”. في الرابع من شهر مارس قال السيد مسعودي إنه غادر الحي في الساعة السابعة والنصف صباحا ليتوجه إلى عمله وبعد دقائق قليلة رنّ هاتفه، لتخبره زوجته أن غرفة الجيران سقطت وردمت البئر والمرحاض، ولحسن الحظ نجت صابرين وظل رمزي ببراءته نائما كالملاك. وحين كانت “الخبر” تعاين حجم المأساة كانت النسوة من الجيران تتوافدن على “الحوش الموحش” لمواساة العائلات المنكوبة، والاطمئنان على سلامة أفرادها. معريف بن علي، وأفراد عائلته الأربعة، من بينهم الزوجة الحامل نجت أيضا من حادثة الانهيار، ويقول عامر معريف، العامل بمقهى حي المدرس، ل«الخبر”: “والدي ووالدتي رحمة اللّه عليهما أودعا ملفا لطلب سكن اجتماعي سنة 1977، وقاما بتجديد وثائق الملف سنة 1997، ورحل الوالدان إلى الآخرة ولم يفرحا بالسكن، وورثنا نحن العذاب، ورغم الخطر الذي يهددنا لم نستفد من السكن. ورغم أن بلدية تلمسان تعلم بحالتنا، والدائرة كذلك، وزارنا مدير ديوان الترقية العقارية سنة 2011 بعد مراسلتنا للوالي ووعدنا بالمساعدة، ولكن دون أن تتحقّق هذه الوعود”. وأرجع عامر الشاب النشط، المعروف في الحي بلقب “سمير”، الانهيارات التي تتهدد السكنات القديمة بحي باب علي إلى قطعان الجرذان التي حولت يوميات العائلات، وخاصة الأطفال منهم إلى كابوس حقيقي.. “إنها الجرذان، قال سمير، نبشها وحفرها للجدران المصنوعة من الحجارة والطين، زيادة على غزارة الأمطار، جعلت حياة المئات من سكان المدينة العتيقة مهددين كل ليلة بخطر الانهيارات المفاجئة”. ليتدخل شخص آخر من عائلة بكار، جاء ليواسي شقيقته: “إننا نصرف على شراء مبيدات الجرذان مثلما نشتري القوت لأبنائنا”، مضيفا بنبرة فيها الكثير من الحسرة والغضب “أين المسؤولون؟ هؤلاء ليسوا بشرا، ليسوا جزائريين. ما ذنب هؤلاء الأطفال؟”، إلى غير ذلك من الأسئلة، لتطلّ علينا من بقايا غرفتها السيدة الشابة، حنان، أم لطفل عمره عامين، وهي حامل، تحمّلت صدمة انهيار بيت الجيران الذي هوى على ركن كانت تتخذه مطبخا. ورغم المعاناة، ومخاض الفقر والحمل معا، حنان كانت شجاعة مبتسمة: “أنا أقيم هنا في غرفة واحدة منذ أربع سنوات. ماذا أقول؟ الخوف، القلق.. الجرذان”، هكذا اختصرت السيدة الشابة حنان يومياتها ومعاناتها مع أزمة السكن وخطر الموت المحدق بها وبفلذة كبدها في كل حين.
التسرّب المدرسي.. الوجه الآخر للمأساة صبرينة، 17 سنة، ونبيل، 16 سنة، وسيدي محمد، 17 سنة، وأطفال آخرون لم يتجاوزوا العشر سنوات، عيّنة من أطفال في عمر الزهور من قاطني سكنات الفقر والموت والجرذان في حي باب علي، في مكان لا يبعد عن دار الحديث، المدرسة المسجد، التي بنتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1937 من القرن الماضي، سوى بخمس دقائق أو أقل، سيرا على الأقدام.. أطفال يفترض أن يتواجدوا بمقاعد الدراسة، في دولة يتباهى مسؤولوها بالأرقام والإصلاحات التربوية. نبيل، 16 سنة، طفل وسيم، شارد البال، كان دليلنا في الزيارة، وهو من أطلق على المكان اسم “مملكة الجرذان”، في بداهة لا تخلو من الذكاء، ولكنه غدر الزمان، قال لنا: “غادرت مقاعد الدراسة في الأولى متوسط، لم أستطع تحمّل ضيق الغرفة وضيق الحياة، وفضّلت مساعدة والدي للتكفل بعائلة أوبلقاسم المتكونة من سبعة أفراد، وأنا أشتغل نادلا بمقهى حي المدرس، رفقة جارنا سمير”، ليضيف نبيل: “لا تتعجبوا حتى شقيقتي توقفتا عن الدراسة وهما في الطور الابتدائي.. والدي ووالدتي لم يتحمّلا أعباء المدرسة، وحتى جارنا سيدي محمد 16 سنة توقف عن الدراسة”. وجه آخر من المأساة اطّلعنا عليه بحي باب علي، في مدينة يقال عنها “مدينة الفن والتاريخ” و«مدينة العلم والعلماء”، بل و«مدينة الوزراء والرؤساء”. صبرينة 17 سنة، لا تفارق الابتسامة محياها، رغم أنها كانت ستقضي ليلتها بعد حادثة الانهيار دون كهرباء ولا ماء، لا تلفاز ولا أنترنت.. كقريناتها من البنات، غادرت الدراسة في الثانية متوسط، مكرهة غير مخيّرة، حين سألتها “الخبر” عن سبب الانقطاع عن الدراسة، قالت بكل شجاعة: “لم أكن أجد طاولة أكتب عليها دروسي، ولم أكن أجد مكانا مناسبا أراجع فيه، وأمضي النهار والليل أحرس إخوتي الصغار من هجوم الجرذان”.. امرأة من الجيران جاءت لتفقّد العائلات المنكوبة قاطعت صبرينة، وقالت بنبرة ممزوجة بالغضب والحزن: “هذا هو الاستعمار بعينه.. لأن فيه ظلم وحڤرة ... هل يقبل مسؤول في جزائر الاستقلال والعزة والكرامة أن يعيش إخوانه هذه الحالة؟ واللّه لن نسامحهم”، أقسمت المرأة. وتبقى ظاهرة التسرّب المدرسي بحي باب علي مأساة تهدد مستقبل الناشئة، وتستدعي تدخلا عاجلا للمختصين وللحركة الجمعوية والعاملين في حقل التربية لإنقاذ أطفال في عمر الزهور من مخالب الجهل والانحراف. حين كنا نغادر حي باب علي باتجاه ساحة الشهداء، حيث تعوّد الرسميون والمجاهدون، في كل مناسبة وطنية، رفع العلم الوطني وقراءة فاتحة الكتاب على الشهداء الذين قضوا من أجل بناء دولة العدالة الاجتماعية، استوقفنا مشهد أطفال لم يجدوا مكانا للعب، سوى بالقرب مفرغة عشوائية بجانب خرائب عمرانية مهددة بالانهيار في كل حين. وقريبا منهم كان عمر وهو إسكافي، عمره 38 سنة، ووليد وهو صبّاغ، عمره 33 سنة، يراقبان لهو الأطفال بحسرة، وقال لنا عمر: “أنتم ترون نحن في قلب المدينة وليس للأطفال مكان يلعبون فيه بكل أمان”، عائدا بنا إلى أزمة السكن بحي باب علي قائلا: “أنا ولدت هنا وكبرت هنا وأعرف سكان الحي جيدا. بعضهم أجّر غرفة لمدة سنة أو أقل واستفاد من الترحيل ومن شقة سكنية جديدة، وبعض البؤساء ينتظرون السكن منذ أكثر من ثلاثين سنة، هذا ليس عدلا”، فيما قال وليد: “هذه الساحة الوحيدة التي تقابل الحي ونجلس لنتنفس فيها هربا من ضيق الغرف والأزقة العتيقة، ولكن انظر فقد تحوّلت إلى مفرغة عشوائية وخطر حقيقي على سكان الحي منذ الانفجار الإرهابي سنة 1995”.. غادرنا مملكة الجرذان في قلب تلمسان، وحملنا هموم سكانها وأحلامهم بغد وفرج قريبين إلى مسؤولي المدينة. رئيس دائرة تلمسان “نعمل على التدقيق في ملفات وهويات سكان المدينة القديمة” قال رئيس دائرة تلمسان، السيد حجام، في اتصال مع “الخبر”، إنه استقبل بتاريخ سقوط منزل حي باب علي عشر عائلات كلها تدّعي أنها ضحية “نكبة” سقوط البيوت القديمة، وأن مصالح الدائرة شكّلت فريق تحقيق متخصص يتشكّل من عدة مصالح إدارية نزل إلى الميدان للمعاينة والتحقيق، مضيفا أن أحياء المدينة القديمة عرفت عدة فترات للترحيل، إلا أن البعض يتحايلون على القانون، ويفضّلون السكن بمنازل آيلة للسقوط للاستفادة من إجراءات الترحيل في إطار برامج السكن الهشّ، مبديا اطلاعه على وضعية العائلات التي تناولها موضوع “الخبر” كعيّنة من معاناة سكان المدينة القديمة. وعن ظاهرة التسرّب المدرسي، قال رئيس الدائرة إنه “كان على العائلات اللجوء إلى المؤسسات التربوية التي تعمل بنظام الداخلية ولا تحرم أبناءها من مواصلة الدراسة”، معتبرا أنه من أكبر العوائق التي تواجه الإدارة في إعادة الاعتبار لأحياء تلمسان القديمة هو مشكل الملكية الخاصة للمنازل، وكذا مشروع الدراسة الخاص بتصنيف المدينة القديمة كتراث عمراني عالمي. وفي انتظار كل ذلك تبقى عائلات جزائرية مثلما عاينته وعايشته “الخبر” ميدانيا، وبعيدا عن تعقيدات الإدارة، تعاني ويلات الفقر والتهميش، إلى درجة أن وصل الأمر ببعضهم إلى وصف نفسه ب«الجزائري مع وقف التنفيذ”.