نشاهدهم في الطرقات، مادين أيديهم، متوسلين المارة علّهم يعطونهم بعض الدينارات. نجدهم عند أبواب المساجد، طالقين أبصارهم على الأرض حياء وحشمة، مكررين عبارات الاستعطاف.. وذارفين عبرات الألم والوهن. ونرى بعضهم من النساء والأطفال خاصة، يفترشون الأرض على حوافي الطرقات. تحزنني قدر ما تذكّرني وضعيّتهم بصورة جميلة لهم وأنا أزور عاصمتهم، دمشق، قبل سنوات. زرت قبلها دولا عربية عديدة. لكن لم أشعر بذاك الأمن والأمان: وكأنّه نسمة عليلة تلفضها قصور الشام وأزقتها لتتغلغل في جسدي وتسري بين ضلوعي وعظامي وتلهم جسدي حرارة . أستيقظ مبكرا على صوت حمامة ينبعث من شرفة الغرفة، وأستقبل في الشوارع بابتسامات عريضة وكلمات حلوة.. لم أجد أمثال تلك الشياكة وذاك الكرم والترحاب، لا قبلها ولا بعدها. أتجوّل كلّ مساء في حي الصالحية أو الحامدية، وأشعر وكأنّني أتمشى بين أزقة وحوانيت الأندلس. أصلّي بالمسجد الأموي وأشعر وكأنّني في رحاب البيت الحرام، وأتابع دروس البوطي وأدرك بأنّه يتحدث عن ثورة خامدة بصدره وعن أمل متدفق من أعماق عمق المشرق.. وأرى من خلال حدقات عينيه انشراحا حذرا ممزوجا بخوف رهيب. أمضي كلّ سهرة في مسرح الحمراء وأشعر وكأنّني أعيش في جمهورية الثقافة والعلم.. وكأنّني أحلم. ما أن أعلن بأنّني أستاذ جامعي جزائري إلا وأوجّه للصفوف الأولى، حيث الأرائك الفخمة والموائد المرصّعة بشتى أنواع الحلويّات الشامية والمشروبات الشرقية. حضرت مسرحيات وكانت القاعة مكتظة عن آخرها.. حضرت منوعات غنائية والجميع يتفاعل ترديدا ورقصا.. وحضرت أمسيات شعرية والجميع ينصت ويتذوق.. وحضرت محاضرات والكلّ يسأل ويناقش. فقلت وأنا أقارن: شعب عجيب، يتذوق كلّ شيء، ويتفاعل مع كلّ ما هو ثقافة وفن.. شعب يتطوّر بصمت. وقلت: كيف يُترك هكذا؟ ألا يخافون من تبصّرهم ومن وعيهم؟ ألا ينزعجون من استقراره؟ لم أكن أدري بأنّ الخطط تحاك والأهداف تسطر.. والغد الرديء آت. تناسيت بأنّهم لن يرضوا عن أحد إلا إذا اتبع ملّتهم.. تذكّرت يوم أذّل الجزائري، يوم شرّد وتفرّق شتاتا بين أصقاع العالم.. وسمعت صوتا ينبعث من أعماق قلبي يقول: “وتلك الأيام نداولها بين النّاس”.