رغم تقلبات الزمن وصيحات العصر المتوالية، ما يزال شهر رمضان الفضيل يحتفظ بالكثير من خصوصياته في ولاية النعامة، لاسيما الاستهلاكية منها، حيث تتفنن ربات البيوت في إعداد الحريرة بمادتها الأولية الأصيلة التشيشة المستخلصة من الشعير، وإعداد أطباق التمر بالسمن واليزير ورائحة التوابل التي تنبعث من البيوت عقب صلاة الظهر من كل يوم، ثم سرعان ما تفل هذه العطور لتنبعث رائحة “القهوة بالشيح” و”خبز السانوج”. كما تحتفظ به الذاكرة الشعبية عند كل من حاورتهم “الخبر”، والذين ما يزال يشدهم الحنين إلى سنوات ماضية كانت بسيطة في كل شيء، لكنها لم تخل يوما من معاني التضامن والترابط الأسري الذي تترجمه السهرات الليلية حول أباريق الشاي نجم سهراتهم بما يحمله معه من حكايات وتجاذب أطراف الحديث، وغيرها من الأحجيات التي كانت ترويها العجائز، وتشد إليها انتباه الأطفال الذين كانوا يترقبون بفارغ الصبر مواعيد الزيارات ليستمتعوا بهذه الأساطير الخيالية التي لا تكاد تخل من عنصر التشويق، حسب ما يرويه الحاج بن يونس محمد. ويسترجع محدثنا شريط ذكرياته مع شهر رمضان بمدينة المشرية، التي كان يفطر سكانها على دوي المدفع اليدوي ذي الصنع التقليدي، الذي كان يحمله كل مساء قبل الإفطار بلحظات قليلة المرحوم قرماط محمد بمنطقة المصلى، وهو جزء من حي لراجي ببن باديس، وكان لصوت المدفع أو كما عرفه العامة آنذاك “النفض” نسبة إلى ما ينفضه من غبار بالمكان علاقة حميمة دافئة بين صاحبه وأهل المدينة الذين لا يفطرون إلا إذا سمعوا هذا الدوي الذي ألفته آذانهم، وبرحيل الرجل جاء صوت صفارة إنذار مصالح الحماية المدنية بمقرهم القديم بحي ابن باديس، قبل أن تزول هي الأخرى ويبقى صوت الآذان قائما.. وللحديث عن السحور بمدينة المشرية، نكهة أخرى كان يصنعها صوت المؤذن “سي دريس” رحمه الله بحنجرة دافئة وأداء متميز، حيث كان يدعو الناس وهم نيام إلى السحور بعبارته المشهورة “اسحروه يا عباد الله” . وما تزال ذاكرة الحاج بن يونس تحتفظ بالشيء الكثير عن طقوس وعادات سكان مدينة المشرية بالنعامة، خلال شهر رمضان، وهي العادات التي تخلت عنها الكثير من العائلات تحت طائل تحسن المستوى المعيشي من جهة، وغزو الفضائيات من جهة ثانية، فغابت فضائل هذا الشهر الذي حوّلته الذهنيات الجديدة إلى شهر للتراخي والاستهلاك.. ليس إلا.