هزت الوطن العربي وحتى الجزائر مجموعة من الأحداث التي لا يمكن أن يبقى أمامها المثقف منكمشا على ذاته أو غائبا، كالعدوان الصهيوني على غزة وما يحدث في العراق وسوريا وليبيا وحتى ما حدث في مصر وما عرفته مدينة غرداية في الجزائر مؤخرا من أحداث.. فأين المثقف الجزائري من كل هذا وهل فعلا المثقف غائب أو هو مُغيّب.. أسئلة طرحتها “الخبر” على مجموعة من المثقفين والأساتذة الجامعيين وكانت المواقف متباينة والآراء مختلفة والمسؤولية يتقاسمها الجميع.. يتحرك المثقف والفنان في الغرب لأي قضية إنسانية أو وطنية، فتهتز الدنيا.. وقد يفتح بكلمة أو موقف عديد النقاشات وتطرح حولها عديد الأسئلة وتخصص القنوات البلاطوهات لهذا النقاش الذي يصبح في حد ذاته حدثا، وقد يتحرك الشارع لأجل ذلك .. في الغرب هكذا يتم التعامل مع المثقف والفنان ليس مجرد صورة للاستهلاك الإعلامي، بل هو صورة المجتمع وتنعكس فيما يفعل ويقول قيم المجتمع ومبادئه ومواقفه، فلا مجال للخطأ ولا التراجع ولا حتى الغياب.. وفي الغرب يتعامل أيضا المثقف والفنان بنفس الالتزام والمسؤولية مع قضايا وطنه والقضايا الإنسانية، فلا يترك مسألة إلا وقدّم فيها رأيا وموقفا، بداية بالقضايا الثقافية والفنية إلى القضايا الإنسانية والاجتماعية إلى القضايا البيئية، فالاقتصادية والسياسية.. فلما يقف المثقف والفنان في الوطن العربي ليؤدي دوره فقط أمام الكاميرا أو صفحات الكتب أو أمام الطلبة في مدرجات الجامعة إلا القلة منهم، بينما يغيب تقريبا في الجزائر.. ولما يهتم الإعلام بفرق كرة القدم وما يقوله ميسي عن صديقته أو عن فريقه، ولا يقف وقفة تساؤل أمام ما يقوله المثقف أو يصرخ به المثقف فأحيانا المثقف يصرخ ولا يسمعه أحد.. فأين المثقف من قضايا الوطن والأمة وأين الاهتمام به وبما يقول..
الأستاذ عاشور فني “الإعلام لعب دورا كبيرا في تغييب موقف المثقفين” يرى الأستاذ عاشور فني، أن المجالات التقليدية التي تسمح بظهور المثقف مغلقة سواء الإذاعة والتلفزيون العمومي أو الصحافة التي أصبحت كما قال أسيرة المال من جهة والسياسة من جهة أخرى، حيث أن كل الآراء والمواقف التي تزعجها لا تقدم للرأي العام، بينما ظهور المثقف يكون عادة عبر اللقاءات وفي الملتقيات والندوات أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. يعتقد الأستاذ عاشور فني أن كل مبدع وأستاذ وجد لنفسه ما يناسبه من آليات لتقديم نفسه وآرائه وانتقاداته، مضيفا أن المبادرات موجودة على أكثر لكنه يحمل الإعلام مسؤولية تغييبها، فلا يتحدث عنها ولا يهتم بها، بل يركز أكثر حسب المتحدث، على مواقف السياسيين ومواقف السلطة بالأخص. ويقدم عاشور فني مقارنة بين ما يحدث في الجزائر والوطن العربي والدول الغربية، أين تهتم وسائل الإعلام بما أسماهم ب«نجوم المجتمع” الذين يصنعون الحدث أحيانا بمجرد تصريح، مثل ما حدث مؤخرا من خلال مواقفهم من العدوان على غزة، فاهتمام وسائل الإعلام الغربية بآراء المثقفين بنفس درجة اهتمامهم برأي السياسيين، بينما عندنا يغيب كل ما يتعلق بالمثقف والكاتب والشاعر والفنان في الإعلام. مضيفا أن هناك الكثير من الآراء والمواقف والمبادرات في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل عرائض تنديد للمثقف العربي بالعدوان الصهيوني على غزة، والتي ضمت شعراء ومثقفين جزائريين، ومنها “تلك التي تمت في الأردن وكانت ذات بعد عربي وتبنت موقفا مناصرا للمقاومة حتى ضد بعض المثقفين، وأخرى تمت على المستوى العالمي ويتعلق الأمر ببيان حركة الشعر العالمية الذي ترجمته ونشرته عدد من المواقع وضم البيان 634 موقع. ويتأسف الأستاذ عاشور فني كون هذه المبادرات لا نجد لها أثرا أو حضورا في الإعلام الجزائري. ويتطرق الأستاذ أخيرا عن المبادرة الثالثة تلك التي احتضنتها المكتبة الوطنية وقادها مثقفون، أين تم إلقاء محاضرة وكان من ثمارها يقول “مسيرة اللجنة الشعبية لمساندة فلسطين ولم يهتم الإعلام بحضور المثقف في المبادرة بقدر اهتمامه بالمجاهد لخضر بورقعة والمجاهدة جميلة بوحيرد واللذان احترمهما كرمز من رموز النضال الجزائري”، ويخلص عاشور فني إلى أن المثقف حاضر بقوة لكن الإعلام هو الغائب، لأن الفضاء العمومي للأسف تابعا للموقف الرسمي ويتجاهل كل من يخرج عن هذا الإطار، مثل ما حصل في قضايا عديدة وطنية كالفساد والانتخابات وغيرها”. ويؤكد عاشور فني أن المثقف الجزائري ما زال يحمل قيم المقاومة والتحرر ويدافع عنها، لكن آراء الكثير من المبدعين لا تظهر في الفضاء العام بسبب السياسة الإعلامية، التي تعمل على حجب آراء ومواقف المثقفين وليس إبرازها. ويوجّه في الأخير الأستاذ عاشور نداء إلى كل المنابر الإعلامية بضرورة الاهتمام بالسؤال وطرح القضايا الجوهرية والإشكاليات الكبرى للثقافة والمثقف. مضيفا أن هناك جزائريين كتبوا رسائل احتفى بها العالم ولم تجد مكانا في الإعلام الجزائري، معلقا لقد وجد المثقف في شبكات التواصل الاجتماعي منفذا للوصول إلى الرأي العالم وتقديم آرائه وهي أكثر فعالية من الصحافة.
الدكتور عبد العالي رزاقي “المثقفون الجزائريون يفتقدون لفضاء يجمعهم ومنبر يمثلهم” أولا.. تراجع المثقف الجزائري عن دوره منذ أكثر من 15 سنة، لأن السلطة في الجزائر أصبحت هي المثقف. فأول لقاء للرئيس بوتفليقة كان عن طريق البابطين سنة 1999، وأصبح بعدها المثقف جزء من السلطة، ولاحظنا أن الكثير من وزراء الثقافة ومنهم من كان مثقفا أصبح مدافعا عن السلطة بينما تراجع دوره كمثقف. ويشير رزاقي إلى أنه من أسباب تراجع دور المثقف هو وصاية السلطة على الجمعيات والنوادي الثقافية والفكرية التي أصبحت مؤسسات تابعة للسلطة، كاتحاد الكتاب الذي أصدر أول بيان له يساند فيه الرئيس بوتفليقة. ويرى رزاقي أنه عندما يفقد المثقف مكانا واتحادا للالتقاء سيعاني من التشتت.. وذكّر رزاقي هنا بمحاولات الجاحظية في هذا الإطار وسعي المرحوم الطاهر وطار لخلق فضاء يجمع المثقفين، حيث كانت لجمعية الجاحظية عديد المواقف وأصدرت عديد البيانات حول أهم القضايا الوطنية والعربية، لكن للأسف يضيف “بعد رحيل الطاهر وطار تراجع أيضا دورها”. يرى رزاقي أن المثقف يبرز من خلال وزارة الثقافة، لكن للأسف هذه الأخيرة منذ وقت طويل أصبحت لا علاقة لها بالثقافة، كما لا توجد مجلة تمثل المثقف الجزائري وتكون منبرا له لتقديم آرائه، فهناك نخبة محدودة على مستوى الجامعات من دكاترة وأساتذة جامعيين لكن يفتقدون لإطار يجمعهم. ويخلص الدكتور عبد العالي رزاقي إلى أن دور المثقف تراجع كثيرا فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية للأمة خاصة القضية الفلسطينية، التي انتزعها السياسيون، فمؤسسة القدس يرعاها ملك وقضية الشتات يرعاها ملك وملك ثالث يقود الوساطات، فالقضية الجوهرية سطا عليها الملوك والرؤساء وهمّش دور المثقف .. صحيح قد حاول كتّاب وشعراء فلسطين لسنوات عديدة جمع المثقفين العرب حول القضية الجوهرية خاصة منهم محمود درويش، لكن عندما رحل رحلت القضية، وهنا لا يتحدث رزاقي عن المثقف الكاتب والشاعر فقط، بل حتى الفنان والفنان التشكيلي والمسرحي وكل الفاعلين. مضيفا أنه اليوم لا يوجد مثقف أو فنان يقول إن إسرائيل دولة إرهابية، فعدم وجود منابر لا ينفي أن المثقف أيضا يتحمل مسؤولية كبيرة اتجاه القضايا الجوهرية للأمة..
الدكتور والناقد السعيد بوطاجين “علينا إعادة النظر في مكانة المثقف في المجتمع أولا” يعتقد الدكتور السعيد بوطاجين، أنه من المهم إعادة النظر في مفهوم المثقف في حد ذاته. هذه الإشكالية وجب ضبطها بدقة. أما المثقف العضوي فأمر آخر. ويرى أنه علينا أن نأخذ في الحسبان عدة اعتبارات من شأنها إضاءة السياق، ومنها وضع هذا المثقف الذي لا اعتبار له. فيقول “لقد سعت الأنظمة المتعاقبة إلى إذلاله والإعلاء من شأن السياسي والمطرب ولاعب كرة القدم، مما تعكسه عدة علامات ووقائع”. مضيفا أنه قد يكون للاعب وزن وتأثير في الرأي العام، إن لم يحل محل العالم والمفكر، أما المثقف فمنبوذ على كافة الأصعدة، من حيث إن الأموال والمناصب والعلاقات هي التي تفكر وتنفذ، أي أنها حسب الدكتور بوطاجين ظلت تمثل السلطة الفعلية في كل الأوقات. ويعتقد بوطاجين أن انسحاب المثقف وانحسار دوره ومواقفه له علاقة مركبة بالسلطة والمجتمع في الوقت ذاته، وبالتالي “علينا أن ندرس مرجعيات الجزائري، التي يمكن أن تكون كالتالي: أغنية الراي والشعوذة وكرة القدم والبزنسة. هذه هي القيم السائدة حاليا، ومن ثم يتعذر على العقل أن يتغلغل داخل هذه الكتلة المتراصة. ولا ينفي الدكتور بوطاجين مسؤولية المثقف فيما آل إليه فيقول “رغم ذلك لا يمكن تبرئة الموقف السلبي لهذا المثقف، مع الإشارة إلى أن المشكلة عالمية تقريبا. نحن نتذكر ببعض الأسف أيام جان بول سارتر وأراغون وماياكوفسكي وغانتر غراس وطاغور وغيرهم من الذين شكّلوا دروعا حقيقية ضد أنواع الشر الذي تنتجه القوى الإمبريالية وصنَاّع الحروب والفتن والمستفيدون منها. يثمّن بالمقابل الناقد السعيد بوطاجين بعض المواقف “مع ذلك لا ننفي أبدا مواقف أصوات جزائرية، خاصة المبادرات الفردية، كما يمكن أن يعكس ذلك بعض ما ينشر”. مصيرا من جهة أخرى مسألة تأثير هذه المواقف على الرأي العام “بيد أننا لا ننتظر أن يكون لهذه المواقف تأثير كبير بالنظر إلى أن أي لاعب أكثر قيمة من مئات المثقفين، وقد يكون خطابه، مهما كان مستواه، أكثر تأثيرا من آلاف الكتب والمقالات العبقرية التي تدافع عن قضايا إنسانية بكثير من الوعي والمسؤولية والحكمة. لكنها لا تؤخذ بعين الاعتبار، ولا تصل إلى أية جهة”. ويخلص الدكتور السعيد بوطاجين إلى أن مواقف المثقفين ليست أموالا ومناصب وعقارات حتى تكون لها أهمية في المجتمع، ولعل ذلك ما يبرر هذا الانكماش الذي لا مفر منه. وينتهي إلى أن هذا الدور سيكون له حضوره بعد سنين، أي عندما تصبح الثقافة من أولويات الأمة، وإحدى ركائزها القاعدية التي تضيء حاضرها ومستقبلها. أما الآن فيرى أنه علينا أن نكتفي بما هو قائم، ولا يمكن، في ظل الظروف الحالية، “أن نطلب من المثقف أن يقوم بدور سبارتاكوس أو عنترة. إنه يجتهد وفق مقدرته، وهو حاضر بما هو متوفر من إمكانيات”.
الكاتب و الإعلامي علي رحايلية “المثقف الجزائري..إما خائن..أو جبان “ يحيلنا الكاتب والإعلامي علي رحايلية من خلال رأيه، إلى جانب آخر من الإشكالية وهي هل هناك مثقف حقيقي يهتم بقضايا الأمة الجوهرية؟ وأي نوع من المثقفين نتكلم عنه؟ وأي مواقف ننتظر؟ يشدد رحايلية، على أنه عندما نتحدث عن المثقف والثقافة، فإننا بالضرورة سنتحدث عن “المعرفة والوعي والحكمة، عن الفكر والفكرة والمفكر، نتحدث عن التحليل والنقد والتغيير، عن المبادئ والمواقف والنضال، نتحدث عن الحرية والقضية والتضحية، عن الصراع من أجل الدفاع عن حقوق الأغلبية المسحوقة ضد طغيان الأقلية المافيوية المجرمة. لكن يضيف “عندما أنظر إلى حال وطني لا أجد من تتوفر فيهم “صفات” و”شروط” ولا حتى “علامات” من يمكن أن تنطبق عليه صفة “مثقف”! معلقا “والغريب أن كل من ينطبق عليه هذا الوصف مات في المنفى؟!”. ويشير الكاتب إلى أن الأسماء التي تُقدم في الجزائر بصفة “المثقف” ما هي في الواقع إلا مجموعة من “أصحاب الشهادات”، أي مجموعة من “المتعلمين”، دكاترة وبروفيسورات وأساتذة وخبراء وو.. “لا علاقة لهم لا بالثقافة، ولا بالوعي، ولا بالحرية، ولا بالمبادئ، ولا بالمواقف، ولا بالنضال، ولا بالمجتمع وقضاياه ولا بضميره”. مضيفا أن هؤلاء الذين يقدمهم الإعلام بصفة “المثقفين”، مجرد “طبالين” و”مداحين” من ممتهني حرفة “التسبيح بحمد فخامته”، ومحترفي لعق “الأحذية الخشنة”، وأن هؤلاء حسبه يمكن أن يفعلوا أي شيء مقابل المال والمنصب، هذه الفئة يقول المتحدث من “مثقفي” إعلام السلطة موجودة في كل مكان. موضحا أنه داخل هذه الفئة من “مثقفي السلطة” توجد فئة أكثر “نفاقا” وخطورة، وهي تلك الفئة التي تعيش وتستفيد من “نقد” السلطة، ولها علاقات بالسلطة والمسؤولين فيها، أفضل في كثير من الأحيان من فئة “الشياتين والطبالين”. ويعتقد رحايلية أن خطورة هذه الفئة التي يصفها ب”العميلة”، تكمن في الدور المزدوج الذي تلعبه، خاصة في المجال السياسي والإعلامي والجامعي ومجال حقوق الإنسان. وأخيرا يختم رحايلية بالقول أنه في مقابل هذه الفئة، أي فئة “الشياتين” و”الخونة” توجد فئة “الجبناء”، لأن من يسمونه “المثقف الجزائري”، هو إما “خائن” أو “جبان”. وهو جبان لأنه “لا يفصح عن رأيه وموقفه، وإن أفصح عنه فإنه لا يدافع عنه، بمعنى آخر أنه ليس مستعد للتضحية من أجل مواقفه ومبادئه”.. ويخلص علي رحايلية إلى أنه “لا ننتظر أي شيء من هذا الذي يسمونه “المثقف الجزائري”، متسائلا “ماذا يمكننا أن نأمل وننتظر من شخص “جالس في حجر السلطة” وآخر مرعوب منها.. في الجزائر لا صوت يعلو على صوت “فخامته”!؟.