يعاني التلفزيون في المنطقة العربية من وطأة التناقض في شهر رمضان أكثر من أي شهر آخر. فمن جهة، تتزايد ساعات بثه للبرامج الدينية التي تؤكد على عدم الإسراف في الأكل، فرمضان شهر التوبة والغفران والتقرب إلى الله بالصيام والقيام وصالح الأعمال وليس بأصناف المأكولات. ويضاعف بثه لبرامج الطبخ التي توحي، بشكل مضمر، بأن هذا الشهر هو مهرجان الأكل، من جهة أخرى. ويلعب الإشهار التلفزيوني دورا رائدا في تغليب البعد الاستهلاكي لهذا الشهر، من خلال تزايد عدد ومضاته ومدتها الزمنية، إلى درجة يعتقد المشاهد أنه يتابع ومضات إشهارية متلفزة تتخللها لقطات من المسلسلات وبرامج الكاميرا الخفية التي تعددت مسمياتها. وما يلفت النظر في الإشهار التلفزيوني الجزائري، أكثر، هو تماهيه مع الفيديو كليب. فالعديد من الومضات الإشهارية في القنوات التلفزيونية الجزائرية تتوسل بالرقص والغناء! ولا أعتقد أن هذا التماهي جاء نتيجة وعي أن الثقافة في التلفزيونات العربية أصبحت، اليوم، تختصر في الفيديو كليب. وأغلب الظن أن هذا التماهي رسخته العادة المكتسبة منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي؛ أي عندما شرع التلفزيون الجزائري في بث ومضات إعلانية توعوية لحماية الأطفال بحوادث السير والطرقات أو لتطعيمهم ضد الشلل. فالومضات الإعلامية كانت حينذاك تستهدف الأطفال، لذا رأى منتجوها ضرورة تحويلها إلى أنشودة يرددها الأطفال لتتناغم مع نمط التعليم السائد والقائم على التكرار والحفظ. وبهذا تم تغليب البعد السمعي في الإشهار التلفزيوني. ومنذ تلك الحقبة وقسط كبير من الإشهار التلفزيوني الجزائري يشق طريقه نحو المستقبل بالغناء، وقد أُضيف له الرقص حتى لا يظل سمعيا فقط. يمكن القول، من باب الاختصار، إن الإشهار التلفزيوني في العالم مرّ بالعديد من المراحل، ففي مرحلته الأولى كان يسعى لتقديم المعادل البصري للسلعة أو الخدمة، أي تمثيلها بصريا، وبهذا كان يقوم بدور تعريفي لها وإعلامي عنها. وبتطور المنافسة وتقنيات التعبير التلفزيوني بدأ النص الإشهاري التلفزيوني يروم الإغراء مستندا إلى الاستعارات التي تخاطب وجدان المشاهد، وتستنطق رغباته المكبوتة وأحلامه، وتسرّح خياله، وتمتن انتماءه الاجتماعي. وبهذا سما الإشهار بالبعد الرمزي للسلع والخدمات ليحدد، عبرها، مكانة الفرد (المشاهد) الزبون في الهرم الاجتماعي. وأمام انزياح وسائل الإعلام عن مهامها، وسقوطها ضحية التضليل والتلاعب والقفز على الحقائق، بدأت الثقة في مصداقيتها تتراجع لدى قطاع واسع من الجمهور الذي تعددت مصادر معلوماته، فلم يعد يصدق ما تنقله. وقد دفع الإشهار ثمن هذا التراجع لأن الجمهور أدرك غاياته المتسترة. لذا غير المعلنون استراتيجيتهم في صياغة نص الإشهار التلفزيوني واتجهوا إلى المزاح والدعابة من أجل تمرير خطابه. يمزحون مع الأشخاص وبأساليبهم ومواقفهم ووضعياتهم، وذلك لاعتقادهم أن المزاح يليّن مقاومة المشاهد للإشهار، وقد يدجن ريبته منه، فيستسلم لرسالته بابتسامة. لقد حاولت بعض القنوات التلفزيونية العربية تقليد هذا النوع من الإشهار التلفزيوني الأجنبي. ويا ليتها ما فعلت، لأنها أصبحت تسخر من ابن البلد البدوي والقروي بالضرورة - ومن لباسه وطريقة حديثه ولغته إلى حد ازدرائه! يعكس الإشهار التلفزيوني في العالم التاريخ الثقافي للشعوب والأمم وأنماط اتصالها ومستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي. فروح المزاح تتجلى، أكثر، في إشهار التلفزيون البريطاني. والنزعة الفكرية والأدبية تتجلى، أكثر، في إشهار التلفزيون الفرنسي من خلال اللعب بالكلمات والمعانى. يحضرني في هذا المقام الومضة الإشهارية التي بثها التلفزيون الفرنسي، والتي تبرز صورة رضيع استمر في أكل زبادي “دانون” عبر مراحل نموه المختلفة، يرفقها صوت يقول فيما معناه: “شيئا فشيئا تكبر بعض الشيء”. فماهي استراتيجية الإشهار التلفزيوني الجزائري؟ جله لا يملك أي استراتيجية لكونه مجرد حوار “ثقيل الدم” يذكر اسم السلعة أو يغير كلمات بعض الأغاني أو يسطو على بعض الألحان ويرقص على السلعة أو الخدمة. وكأن مشاهده طفل صغير يرفض الأكل فتقوم والدته بالغناء على الأكل حتى يأكل! فلا خيال، ولا فكر، ولا اجتهاد في حبك قصة ذكية تدور حول محور إعلاني محدد. وكأن الجزائر تعاني من عقم مخيلتها اللفظية وصورها الشعرية وأقوالها المأثورة وحكمها وعبقرية شعبها في الاستعارة والمجاز. أعرف أن البعض لا يشاطرني الرأي، ويعتبره حكما قاسيا وعاما. لذا أرجو منهم أن يسألوا كيف ينتح الإشهار التلفزيوني في الجزائر؟ هل يستند إلى دراسة السوق، وموقع السلعة أو الخدمة فيه، ويحلل عادات الاستهلاك، ويبحث عن المحور الإعلاني الذي ترتكز عليه، ويدرس الفئة التي يستهدفها وخصائصها الاجتماعية والثقافية؟ وهل يقوم ببحوث معمقة عن عملية تلقي الإشهار؟