لا تبرح الحكومة تنفق أموالا ضخمة على ترقية البحث العلمي والارتقاء بالجامعة، والنهوض بالحياة العلمية بالجزائر، وهي تبذل جهودا معتبرة مشكورةً لا تُكفَر بأي حال، محورها الأساسي هو الطالب الجامعي في كل المراحل التي يتدرج فيها، إلا أن قيمته العلمية تبقى دائما محل تساؤل، وأمرًا محيِّرًا مثيرا للإشفاق والأسف، وغالبا ما تتوجه إليه سهام النقد والتقريع، ما يُشعره بالذنب ويفقده قدرا مهما من ثقته بنفسه وإمكاناته. فما مقدار ما يتحمله الطالب الجامعي مِن تدني مستوى تحصيله العلمي وضعف تكوين شخصيته العلمية؟ إنه لَمِن الإجحاف أن ننظر إلى المسألة بعيدا عن الظروف المحيطة بها، فلعلَّ منها ما يخفف عليه وطأة حكمنا، إذ لا فِكاك له من آثارها شاء ذلك أم أباه، والواقع أن الجامعة الجزائرية بشكل عام تشكو منذ وقت طويل من تراجع المستوى العلمي، فالمشكل قائم قبل أن يلج الطالب الجامعة، ومنظومة التعليم والتربية بالجزائر دخلت في متاهات يحار اللّبيب الفَطن في الخروج منها، وكان من أثرها أن امتلأت الكتب المدرسية أخطاء، واختلط حابل التعليم بنابل الحقوق الاجتماعية والإدارية للأساتذة والموظفين، فذُهِلت المدرسة عن التربية وضعفت قبضتها على التعليم، فقدّمت للجامعة أجيالا من الطلبة يبدو عليهم بوضوح مشاكل المدرسة الجزائرية. ولا ننسى أيضا أن الجامعة والمدرسة هما جزء من مؤسسات المجتمع الذي لا يزال هو الآخر عالقاً في أوحال التخلف الحضاري، الباسطِ ظلمته على الأمة العربية والإسلامية جميعا، فلا غَرْوَ أن يصيب الحياةَ العلميةَ شيء من هذا التخلف كما أصاب غيرها بمقادير متفاوتة، والمشكلة هنا هي أن تطوير الحياة العلمية في مجتمع متخلف حضاريا لابدّ أن يمر عبر الارتقاء بالإنسان أولا، وهذا الأخير يتأثر بالشروط الحضارية المحيطة به، وهي للأسف تشدُّه إلى الأرض وتحدُّ من قدرته على الانطلاق فلا يكاد يتحرَّر من أسرها إلا أصحاب الهمم العاليات وهؤلاء مهما كثروا قلّةٌ في كل مجتمع، وإنما يقاس التقدم الحضاري أيضا بمدى ارتفاع ثقافة الفرد وحظِّه من هذا التقدم. كما أن النظام السياسي، باعتباره مسيِّرا لشؤون المجتمع، يملك قدرةً كبيرة على النهوض بالحياة العلمية أو القعود بها، وهذه مسألة لا تحتاج إلى برهان لها من واقعنا اليوم ومن التاريخ شواهد كثيرة. عندما نُطالب الطالب الجامعي أن يرتقي إلى المستوى العلمي والتربوي والفكري الذي نريده جميعا إنما نُحمّله فوق طاقته، إذ بالإضافة إلى ما قلناه سابقا، فهو يواجه ظروفا اجتماعية سيئة، ألْزمتْه اللجوء إلى الجامعة من أجل الحصول على وظيفةٍ غالبا، فيكون الهَمُّ العلمي ثانويا بالنسبة له، وهذه الأوضاع الاجتماعية هي نفسها التي أضعفت السلطة التربوية للأسرة الجزائرية اللاهثة خلف الخبز والسكن، فيكون من أثر ذلك ضحالة المستوى التربوي والأخلاقي للطالب، الذي يجد نفسه عاريا من آليات التفكير السليم التي تمكّنه من توجيه نفسه وجهة علمية صحيحة، كثيرا ما تؤدي به إلى تضييع سنوات في تخصصات لا تناسبه. وزِد على هذا مصائب الأحياء الجامعية ومشاكلها التي لا تنتهي، والتي تستهلك على الأقل نصف مجهودات الطالب البدنية والفكرية، وكان أحرى بالخدمات الجامعية أن تسهل عملية التحصيل العلمي لا أن تعرقلها كما هو حاصل عندنا. إذا تجلّى ضعف التكوين العلمي في الطالب وتجلّى فيه، فلا يعني هذا أنه هو المسؤول الوحيد عنه، بل قد يكون ضحيةَ كل ما ذكرته سابقا وغيرَه مما لم أذكره، وإدانتنا للطالب هي إدانة للأستاذ الذي فشل في صناعته، وللمناهج التي أخطأت أهدافها، وللظروف السياسية والاجتماعية السيئة التي بسطت سلطانها. وبعد هذا كلّه لا أجعل الطالب مجرّد بضاعة تتحكم في جودتها هذه الشروط أو تلك، فهو أيضا لا يعطي مقعد الجامعة حقه من التقدير والاحترام، بل يبدو أن عددا غفيرا من الطلبة لا يعرفون ما معنى أن يكونوا طلبة علم، الجامعة عندهم وشواطئ البحر سواء، وإنّ عجبي لا ينتهي من طالب يدلف إلى الحرم الجامعي بسروال هابط لا يستُر عورتَه، أو طالبة تدخل قاعة الدرس بلباس السهرات الماجنة. ومهما يكن فإن الطالب في هذه المرحلة مطالب باستدراك ما فاته خلقيا وتربويا وفكريا. إن تراجع مستوى الطالب الجزائري هو نتيجة لمشاكل كثيرة تشابكت خيوطها وتعقدت مسالكها، وصارت الضحالة ظاهرة عمّت كل القطاعات وليس الجامعة فقط، وإن شئتَ فانظر إلى قطاع الصحة أو التعليم أو الإدارة أو البرلمان أو الأحزاب السياسية أو غيرها، فحيثما ولّيت وجهك انقلب إليك بصرك كسيفا خائبا، إلاّ أن مؤشرات التغيير والتصحيح موجودة وكثيرة، والفرد الجزائري يملك كل مقومات النهوض والارتقاء إذا صحت النية وصدقت العزيمة. [email protected]